بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 19 فبراير 2018

بين البطل و"الكومبارس" .. تحقيق الذات بين القيم الحديثة والصحة النفسية:

بين البطل و"الكومبارس" .. تحقيق الذات بين القيم الحديثة والصحة النفسية:

 د. حسان المالح



هذا الشكل كاريكاتيري وفيه فكاهة وسخرية .. وهو يشرح الحاجات الإنسانية وفقاً لنظرية ماسلو النفسية 1970 .. لكن تمت إضافة الحاجة للانترنت إليه ووضعها في الأسفل .. وأنها أساس الحاجات الإنسانية.

يرتبط تحقيق الذات (Self actualization) بالقدرة على الوصول إلى ما يريده الشخص ويرغب فيه، وما يسعى له وما هو قادر على فعله، وأيضاً يرتبط بالإحساس بقيمته كإنسان وتنمية طاقاته وإمكانياته وإبداعه. وفي تفاصيل ذلك أن يستطيع الإنسان التعبير عن انفعالاته ومشاعره السلبية والإيجابية، وأن يقوم بإبداع  ما هو جديد ومفيد ومناسب، وأن يستطيع حل المشكلات التي تواجهه أو أن يتكيف مع الضغوط والإحباطات ويقاومها بشكل مناسب. وهو أهم الحاجات الإنسانية النفسية وفقاً لنظرية  "ماسلو" النفسية عام 1970 حول الحاجات النفسية الإنسانية.
كما أن تحقيق الذات يرتبط بالتوكيدية وإثبات الذات (Assertion) وهي من المفاهيم الهامة التي تساهم في بناء الصحة النفسية للفرد .. وكلما زادت المهارات التوكيدية نقصت السلبية .. وفي الحالات المتطرفة ترتبط التوكيدية بالعدوانية المرضية. أما الحالات الاعتيادية فهي ترتبط بالنجاح والتعبير المناسب عن الذات والحرية الانفعالية والفاعلية في العلاقات مع الآخر والمجتمع.
وتشجع القيم المعاصرة الحديثة على تحقيق الذات وإثباتها وعلى الطموح، وتشجع على الإنسان الكوني المعولم .. كما تشجع الفردية والذاتية والأنا والنرجسية والغرور والتنافس والاستهلاك وغير ذلك .. بنسبة أكبر من الثقافات الأخرى القديمة التي تؤكد على الجماعة والآخرين والغيرية  والأسرة والعشيرة والقبيلة والأمة، وغير ذلك من القيم.
ومن المؤكد أن القيم المعاصرة تزيد من الجشع والعنف والنرجسية  .. مع اختلافات نسبية في المجتمعات وفقاً لتاريخها وثقافتها الخاصة وظروفها.
وتؤكد وسائل التواصل الاجتماعي ومنها الفيس بوك وتويتر وغيرها على صفحتك الشخصية وأهميتها .. وعلى رأيك وما تفكر به أنت  وماتقوم به من أعمال ونشاطات وصور وغير ذلك.
وفي ذلك بالطبع تحقيق للذات وإثباتها مما يمكن أن يكون وسيلة مفيدة وبناءة وإيجابية ومفيدة للصحة النفسية. وفيها أيضاً هامش مفيد من الحرية يمكن أن يساهم في تحسين ظروف الإنسان المقهور والهامشي (الكومبارس: الممثل الثانوي)(Compars) والذي يسعى نحو تحسين أوضاعه ويسعى إلى أدوار البطولة.
ولكنها في الوقت نفسه يمكن لها أن تغذي النرجسية المفرطة والسطحية والتعلق الزائد بإعجاب الآخرين (Like)، وأيضاً يمكن لها أن تشجع السرقة والإدعاء والتزييف، والبطولات الفارغة المتنوعة.
ويحمل الإنسان في داخله منذ نعومة اظفاره أفكاراً عن ضرورة أن يكون ناجحاً ومتفوقاً وبطلاً .. في مختلف الميادين .. وتغذي القيم التربوية  والوالدية والاجتماعية هذا السعي المحموم لأدوار البطولة .. ومن المؤكد أن الأشخاص مختلفون في قدراتهم وإمكانياتهم الجسدية والعقلية .. ولا يمكن للجميع أن يكونوا أبطالاً، والبطولة مفهوم نسبي دائماً .. وكثير من المحبطين حلموا بأدوار البطولة ولكنهم أصبحوا يقومون بأدوار ثانوية أو هامشية في الحياة (كومبارس).
ويمكن أن يرتبط ذلك بفقدان الدور والاكتئاب وهو واسع الانتشار .. ولا بد من التاكيد على أن الإنسان يلعب أدواراً متعددة خلال مسيرة حياته .. وهو يحتاج إلى التكيف مع ظروفه ومع مراحل حياته المختلفة. وهناك أدوار تنتهي أو تتقلص .. وهناك أدوار أخرى يمكن له أن يمارسها.
وكلما كان الشخص أكثر مرونة في تقبل واقعه وظروفه الشخصية والحياتية، كلما كان أكثر قدرة على التكيف الناجح، ولا بد من الرضا عن الذات وعن إنجازاتها المتنوعة، بدلاً من السير وراء أحلام لا تتحقق في البطولة .. وقيم البطل الواحد والأول والأعظم .. والتي ربما تكون خيالاً مرضياً .. وممرضاً للآخرين أيضاً.
وتمتلئ أوهام الشعوب وخرافاتها .. وخيالات الطفولة بمفاهيم البطل الخارق والأعظم والأقوى والأطول والأجمل وغيره .. وهذا تفكير طفولي وخرافي لا يتناسب مع الحياة الواقعية .. وتشجع القيم المعاصرة الزائفة هذه المفاهيم في الأفلام والدعاية والمنافسات الرياضية ومنافسات الجمال وموسوعة غينيس للأرقام القياسية، وغيرها..
ولا بد من التفكير العلمي والواقعية والتي تؤكد على النسبية في القيم والتقييم، وهذا أساسي في الصحة النفسية .. وهناك أبطال متعددون ولهم درجات متفاوتة من البطولة والنجاح .. وهناك هامشيون .. وهناك بين هؤلاء وهؤلاء .. ولا يوجد أذكى شخص في العالم او أجمله أو أغناه .. وهناك أشخاص متفوقون وأشخاص متوسطون وأشخاص لديهم قدرات منخفضة .. ومن حق الجميع أن يهنؤوا بحياتهم وأن يقوموا بما يستطيعون .. ولكل حقوقه ودوره وإمكانياته وظروفه .. ولا يعني ذلك السلبية والرضا والقناعة المرضية .. ولا بد من التاكيد على تنمية المهارات والقدرات وتحقيق الذات وإثباتها بشكل واقعي وعملي دون خيالات متطرفة أو طموح لا يرتوي ولا يتحقق .. ولا بد من إتاحة الفرص المناسبة وتحسين ظروف الأفراد بما يتناسب مع فعالية أفضل وإنتاج أفضل.
ويبقى التناقض قائماً بين القيم الخيالية المرضية المعاصرة الشائعة والقيم الإنسانية الأساسية .. مما يساهم بالتأكيد في ازدياد معدلات القلق والاكتئاب والإدمانات وغيرها .. وأيضاً في ازدياد مختلف الشرور الاجتماعية مثل الجريمة والعنف والتفكك الأسري وتدهور القيم العامة. وبالتأكيد فإن العصر الحديث بقيمه هذه .. لا يمثل ارتقاء للإنسان بل يمثل نكوصاً طفولياً، ومرضاً, وبدائية وهمجية في ميدان القيم والمبادئ والأخلاق الإنسانية.
وأخيراً .. "إذا لم تستطع أن تكون نجماً في السماء .. كن مصباحاً في البيت".