بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

فينسنت فان كوخ .. لمحات من حياته وفنه واضطرابه النفسي

فينسنت فان كوخ .. لمحات من حياته وفنه واضطرابه النفسي 
د. حسان المالح

فان غوخ بريشته 
1- حياته وموته
مقدمة:
فينست فان غوخ فنان هولندي (1853-1890)، يصنف كأحد فناني المدرسة الانطباعية الجديدة  impressionism  Newتتضمن رسومه بعضاً من أكثر اللوحات شهرة وشعبية وأغلاها سعراً في العالم.  مات منتحراً وعمره 37 سنة.
تفاصيل عن حياته:
أمه رسامة موهوبة وأبوه رجل دين نشيط وحيوي، وفي أسرته تجارة اللوحات الفنية ورجال عسكريين. وهو أكبر من أخوته الستة، وله أخت قضت نصف عمرها في مصح عقلي، وأخوه الأصغر مات منتحراً (للمزيد من التفاصيل في نهاية المقال)*.
بدأ حياته بتجارة بيع اللوحات الفنية في عمر 16 سنة ويعد 7 سنوات قضى منها فترة في لندن، ترك ذلك وقرر أن يصبح رجل دين. وتوجه إلى أمستردام لتهيئة نفسه لدراسة علم اللاهوت. وتلقى دروس اللغة اليونانية واللاتينية والرياضيات هناك، ولكن بسبب قلة براعته أرغم في النهاية على ترك الدراسة بعد 15 شهراً. وقد وصف فينسنت هذه الفترة لاحقاً بأنها أسوأ فترات حياته. وفي تشرين الثاني أخفق في التأهل للمدرسة التبشيرية ولكن أوصت الكنيسة في النهاية على أن يذهب إلى منطقة التنقيب عن الفحم فيقرية بوريناج ببلجيكا. وفيكانون الثاني 1879 بدأ عمله الديني مع عمال مناجم الفحم وعوائلهم. وشعر بارتباط عاطفي قوي تجاههم. وتعاطف مع أوضاع عملهم المخيفة وحاول فعل ما يستطيع كزعيم روحي لتخفيف أعباء حياتهم. وهذه الرغبة الإيثارية أصبحت شديدة حيث بدأ بإعطاء أغلب مأكله وملبسه إلى الناس الفقراء تحت رعايته. وعلى الرغم من نواياه النبيلة، رفض ممثلو الكنيسة زهد فان كوخ بقوة وطردوه من منصبه في تموز. وقد رفض تركه للمنطقة، وانتقل إلى قرية مجاورة وبقى هناك بحالة فقر شديد. وفي السنة التالية كافح من أجل العيش، ورغم أنه لم يكن قادراً على مساعدة سكان القرية بأي صفة رسمية كرجل دين، اختار أن يبقى أحد أعضاء جاليتهم. وفي أحد الأيام شعر بالاضطرار إلى زيارة بيت جولز بريتون، وهو رسام فرنسي كان يحترمه كثيراً، وتطلب منه ذلك أن يمشي سبعين كيلو متراً إلى كوريير بفرنسا، لكن فينسنت كان خجولاً جداً أن يدق الباب عند وصوله، وعاد فاقداً الثقة ومرهقاً بشكل كبير. وفي تلك الفترة اختار فينسنت فان كوخ مهنته اللاحقة أن يكون فناناً.
حياته الفنية:
وفي خريف عام 1880، (وعمره 27 سنة) توجه فينسنت إلى بروكسل لبدء دراساته الفنية وبقي في معهد الفنون الجميلة فترة قصيرة، ثم عاد ليعيش مع أبويه.
وخلال تلك الفترة قابل ابنة عمه كورنيليا وقد أصبحت أرملة مؤخراً وكانت تربي ابنها الصغير وحدها، ووقع في حبها وتحطمت مشاعره حينما رفضته، بعد ذلك قرر فينسنت مواجهتها في بيت أبويها. رفض أبوها السماح له برؤيتها فقرر فينسنت وضع يده على قمع مصباح زيتي ليحرق نفسه متعمداً قائلا: "اجعلوني أراها قدر ما أستطيع وضع يدي في هذا اللهب"، لكن أباها قام بسرعة بإطفاء المصباح، وغادر فينسنت البيت مهاناً.
وعلى الرغم من نكسته العاطفية مع ابنة عمه والتوترات الشخصية مع أبيها، وجد فينسنت بعض التشجيع من فنان ناجح قريب له اسمه أنتون موف (1838-1888)  في لاهاي حيث انتقل إليه، وزوده بمجموعته الأولى من الألوان المائية، وهكذا بدأ فينسنت بالعمل بواسطة الألوان. كان فينسنت معجباً كثيراً بأعمال موف وكان ممتناً له. وكانت علاقتهما جيدة، لكنها توترت عندما بدأ فينسنت بالعيش مع مومس. حيث قابل كلاسينا ماريا هورنيك (1850-1904) في لاهاي عام 1882. وكانت هذه الإمرأة (الملقبة بـ سين) حاملاً بطفلها الثاني لكنها انتقلت للعيش معه حوالي سنة ونصف. وقد نمت مواهب الفنان بشكل كبير بمساعدة سين وأطفالها في تلك الفترة. وفي لوحة "سين جالسة على السلة مع فتاة"، صور فينسنت الحياة العائلية الهادئة بمهارة، مع بعض الإحساس باليأس، وهي المشاعر التي عرف بها خلال الفترة التي عاش فيها مع سين.
ومع تقدم مهاراته في رسومه، تدهورت علاقته مع سين وأصيب بالزهري (السفلس) فافترقا، وترك فينسنت لاهاي للسفر إلى درينتي في هولندا. وعاش في الأسابيع الست التالية حياة البداوة، حيث تنقل في كافة أنحاء المنطقة ورسم المناظر الطبيعية البعيدة مع سكانها.
عاد فينسنت مرة أخرى إلى بيت أبويه في نوينين في أواخر العام 1883. وواصل حرفته طوال السنة التالية، وأنتج عشرات الرسوم أثناء تلك الفترة، مثل لوحات الحياك والغزالون وغيرهما. وأصبح الفلاحون المحليون مواضيع اهتمامه لأنه شعر بصلة قوية نحوهم، وجزئياً كان سبب ذلك إعجابه بالرسام ميليه الذي أنتج بنفسه لوحات تعطف على العمال في الحقول.
مارجوت بيجيمان  (1841 - 1907)، التي عاشت عائلتها إلى جوار أبوي فينسنت، كانت تعشقه، وقادتها علاقتها العاطفية إلى محاولة الانتحار بالسم. كان فينسنت مذهولاً جداً لتلك الحادثة. تعافت مارجوت في النهاية، لكن الحادثة أزعجت فينسنت كما أشار إليها في رسائله في عديد من المناسبات.
بعد العمل الشاق وتطوير الأساليب الفنية باستمرار في السنوات الماضية استطاع فنسينت إنتاج لوحته العظيمة الأولى وهي "آكلوا البطاطا". وقد عمل على هذه اللوحة طوال شهر نيسان من العام 1885 بعد وفاة والده. وكانت علاقته مع أبيه متوترة جداً خلال السنوات القليلة الأخيرة، إلا أنه بالتأكيد لم يكن سعيداً بشأن موته، لكنه كان منفصلاً عاطفياً عنه، مما سمح له بمواصلة العمل بشكل اعتيادي.

أكلوا البطاطا 1885
ثم انتقل إلى باريس لمدة سنتين عام 1886 بتشجيع من أخيه ثيو ودعمه المالي والمعنوي، وكان فينسنت وثيو قريبين من بعضهما البعض على الدوام في طفولتهما وفي أغلب حياتهما التالية، حيث بقيا يتراسلان باستمرار ووصل عدد هذه الرسائل إلى أكثر من 800 رسالة، وهذه الرسائل تشكل أغلب معرفتنا حول فان كوخ وحياته الخاصة وأعماله الفنية.
وفي باريس تعرف على كبار الفنانين مثل ديغاس، ومونيه، ورينوار، وبيسارو، وسيورا، وسيسلي. وتأثر بدون شك بطرق الانطباعيين والانطباعيين الجدد.
وأيضاً أصبح مهتماً بالفن الياباني. حيث فتحت اليابان موانئها مؤخراً للدول الغربية بعد قرون من الحصار الثقافي، ونتيجة لتلك الانعزالية الطويلة سحر العالم الغربي بالثقافة اليابانية. بدأ فان غوخ باكتساب مجموعة كبيرة من الطبعات الخشبية اليابانية، وعكست لوحاته في أثناء ذلك الوقت الاستعمال الحيوي للألوان المفضلة عند الانطباعيين والألوان اليابانية المنعكسة. وبالرغم من أن فان غوخ أنتج ثلاث لوحات يابانية فقط، إلا أن التأثير الياباني على فنه كان موجوداً بشكل دقيق طوال بقية حياته.
وكان الطقس السيئ أثناء فصل الشتاء يجعل فينسنت عصبياً ومكتئباً. ولكنه لم يكن أكثر سعادة عندما كان الطقس أفضل. وكانت تلك السنتين في باريس الأكثر تأثيراً على تطوره المستمر كفنان.  وحصل على ما كان يريده وحان وقت الانتقال.
آخر سنتين من حياته:
لم يكن فينسنت سعيداً أبداً في المدن الكبيرة، وقرر ترك باريس نحو دفء الجنوب. إلى أرل Arles متطلعاً إلى مستقبل ناجح.
كان خائب الأمل في آرل في أسابيعه الأولى هناك..حيث وجدها باردة بشكل غير اعتيادي. ولكن الطقس القاسي كان قصيراً فبدأ فينسنت برسم بعضاً من أفضل أعماله.
عندما ارتفعت درجة الحرارة، لم يهدر فينسنت فرصة البدء بالعمل في الطبيعة، وقام بعدة أعمال من بينها رسمة "منظر طبيعي لطريق وأشجار مشذبة"، ولوحة "الطريق عبر حقل الصفصاف". أنتجت الرسمة في آذار حيث تبدو الأشجار كئيبة جداً بعد فصل الشتاء. أما في اللوحة فقد رسمها بعد شهر وهي تعرض البراعم الربيعية على نفس الأشجار.
في تلك الفترة رسم فان كوخ سلسلة من لوحات البساتين المنفتحة. وكان مسروراً بما أنتج وشعر بالتجدد. وكانت الشهور التالية أكثر سعادة بالنسبة إليه. واستأجر بيتاً أصفراً كمكان يرسم فيه ويضع لوحاته وسماه إستوديو الجنوب.
عمل فينسنت بجد في طوال فصلي الربيع والصيف، وبدأ بإرسال بعض أعماله لثيو. تمتع برفقة الناس وفعل ما بمقدوره أثناء تلك الشهور للحصول على الأصدقاء. بالرغم من أنه كان وحيداً جداً في بعض الأحيان، صادق فينسنت بول يوجين ميلي وجندياً آخراً، كما رسم صورهما.
لم يفقد فينسنت الأمل أبداً في إمكانية تأسيس مركز ومرسم للفنانين، وبدأ بتشجيع غوغان للانضمام إليه في الجنوب، لكن الفرصة لم تكن محتملة، لأن انتقال غوغان يتطلب الكثير من العون المالي من ثيو، الذي لم يعد يتحمل المزيد. وفي أواخر تموز توفي عم فان غوخ وترك إرثاً لثيو مما مكنه من تبني انتقال غوغان إلى آرل. شعر ثيو بأن فينسنت سيكون أكثر سعادة واستقراراً برفقة غوغان، كما أمل في أن تكون لوحات غوغان مربحة بالنسبة إليه. 

لوحة عباد الشمس 1889
وصل غوغان إلى أرل ورسم له فينسنت لوحة زهرة الشمس ليزين بها غرفة غوغان.
وفي البداية كان فان غوخ وغوغان مرتاحين معاً، حيث قاما بالرسم في آرل، كما ناقشا الفن والتقنيات المختلفة. ولكن مع مرور الوقت تدهور الطقس ووجد الاثنان أنفسهما مرغمين على البقاء في الداخل كثيراً.
قطع أذنه اليسرى:
تدهورت العلاقة بين فان غوخ وغوغان في كانون الأول، فأصبحت مجادلاتهما الساخنة كثيرة الحدوث. وفي 23 كانون الأول 1888 أصيب فينسنت بنوبة عقلية وتشاجر مع غوغان وهدده بسكين، ثم قطع الجزء الأسفل من أذنه اليسرى بواسطة شفرة حلاقة ثم انهار. (وفي رواية أخرى أنه أخذ الأذن المقطوعة إلى ملهى وقدمها إلى مومس يعرفها، وقد خافت وأبلغت الشرطة). وقد اكتشفته الشرطة ثم أدخل إلى مستشفى هوتيل ديو في آرل. أما غوغان فقد أرسل برقية إلى ثيو يخبره بما حدث، ثم اتجه فوراً إلى باريس دون أن يزور فان كوخ في المستشفى. وقد تراسل فان كوخ وغوغان لاحقاً لكنهما لم يجتمعا شخصياً مرة أخرى. و يوجد قصة أخرى حول قطع أذنه اليسرى تقول أن غوغان هو من قام بضربه بسيف وقطع جزءاً صغيراً من أذنه وليس فان كوخ من قطع أذنه بنفسه، وهناك أيضاً قصة ثانية تقول أن فان جوخ هو من قام بهذه العملية للاعتراف بهزيمته أمام صديقه الذي كان ناجحاً أكثر منه مع النساء، حيث أن هذه العملية هي  رمز على الانتصار في مصارعة الثيران الذي اعتادا على حضورها معاً، حيث يقوم مصارع الثيران تعبيراً عن انتصاره بقطع أذن الثور .
كان فينسنت وهو في المستشفى تحت عناية الدكتور فيليكس راي. وكان ثيو الذي أسرع بالمجيء من باريس على يقين من أن فينسنت سيموت، لكنه تعافى كلياً مع نهاية كانون الأول وبداية الشهر التالي.
لم تكن الأسابيع الأولى من العام 1889 سهلة بالنسبة لفينسينت. عاد بعد تعافيه إلى بيته الأصفر، لكنه واصل زياراته إلى للدكتور راي لإجراء الفحوصات ولتغيير ضمادات رأسه. كان فينسنت متحمساً للرسم بعد التوقف لفترة، لكن مشاكله المالية استمرت، كما شعر باكتئاب جزئي عندما قرر صديقه المقرب جوسف رولن (1841-1903) الانتقال مع عائلته إلى مارسيليا. أصبح فينسنت كثير الإنتاج طوال كانون الثاني وبداية الشهر التالي، فرسم بعضاً من أعماله المعروفة مثل لوحتي "لابيرسوز" و"عباد الشمس". في شباط عانى فينسنت من نوبة أخرى تخيل فيها نفسه بأن مسمم. نقل على إثرها مرة أخرى إلى مستشفى هوتيل ديو للمعالجة، ومكث هناك 10 أيام، لكنه عاد مرة أخرى إلى البيت الأصفر بعد ذلك.
أصبح بعض مواطني آرل قلقين في ذلك الوقت بسبب سلوك فينسنت، فوقعوا عريضة بخصوص مخاوفهم. وأمر مدير الشرطة فان غوخ بدخول المستشفى مرة أخرى. بقى فينسنت في المستشفى 6 أسابيع، ولكن سمح له بالمغادرة تحت الإشراف في بعض الأحيان لكي يقوم بالرسم. عاد فان غوخ لرسم البساتين المنفتحة حول آرل. ولكن بينما كان ينتج بعضاً من أفضل أعماله، أدرك فينسنت بأن وضعه النفسي غير ثابت، وبعد المناقشات مع ثيو وافق على اللجوء إلى مستشفى سان بول دي موسول النفسي في سان ريمي دي بروفانس طوعاً.

في المشفى النفسي:

عند وصوله إلى المشفى وضع فان غوخ تحت عناية الدكتور ثيوفيل بيرون (1827 - 1895). بعد فحص فينسنت ومراجعة حالته، اقتنع الدكتور بيرون بأن مريضه كان يعاني من الصرع. بعد أسابيع بقيت حالة فينسنت العقلية مستقرة وسمح له بالاستمرار في الرسم. ورسم خلالها في المصح Saint Rémy، وفي منتصف شهر حزيران أنتج فان غوخ عمله الأفضل وهو لوحة "ليلة النجوم ”Starry night. وقد رسم هذه اللوحة للمنظر الذي تخيله خارج غرفته في المصح، وكتب لأخوه ثيو في ذلك الوقت “الموت مثل رحلة إلى النجوم، أن تموت بسلام كأن تذهب إلى هناك سيراً على الأقدام".

لوحة ليلة النجوم (1889) 

اللوحة موجودة حالياً في متحف نيويورك للفن الحديث
لم تدم حالة فان غوخ العقلية الهادئة نسبياً طويلاً، فأصيب بنوبة أخرى في منتصف شهر تموز. حاول فينسنت ابتلاع وأكل لوحاته الخاصة، ولذلك وضع في المستشفى ولم يسمح له بالوصول إليها. ورغم أنه تعافى سريعاً من الحادثة، لكنه أصيب بالإحباط بعدما حرم من الشيء الوحيد الذي يحبه وهو فنه. في الأسبوع التالي سمح الدكتور بيرون لفان غوخ باستئناف الرسم وتزامن ذلك الاستئناف مع حالة عقلية جيدة. أرسل فينسنت رسائل لثيو تفصل حالته الصحية غير الثابتة. كما أن الأخير كان مريضاً أيضاً في بداية العام 1889. لم يستطع فان غوخ مغادرة غرفته لمدة شهرين، لكنه في الأسابيع التالية تغلب على مخاوفه مرة أخرى واستمر بالعمل. في أثناء ذلك بدأ فينسنت بالتخطيط لمغادرته النهائية من المستشفى النفسي وطرح ذلك على ثيو الذي بدأ بالاستعلام عن البدائل المحتملة لعناية فينسنت الطبية.
بقت صحة فان غوخ العقلية والجسدية مستقرة جداً بقية عام 1889. وتعافت صحة ثيو أيضاً وكان مستعداً للانتقال إلى بيت جديد مع زوجته الجديدة، كما ساعد أوكتافي موس الذي كان ينظم معرضاً في بروكسل حيث عرضت فيه ست من لوحات فينسنت. وبدا فينسنت متحمساً منتجاً طوال ذلك الوقت. وبعد مرور سنة على حادثة قطع الأذن، عانى فينسنت من نوبة أخرى استمرت لأسبوع، لكنه تعافى منها بسرعة واستمر في الرسم. كما عانى من المزيد من النوبات في الشهور الأولى من عام 1890. ومن المحتمل أن تكون تلك الفترة الأسوأ بالنسبة لحالته العقلية اليائسة. بعد الاستعلام شعر ثيو بأنه من الأفضل لفينسنت أن يعود إلى باريس ويوضع تحت عناية الدكتور بول غاشي(1828-1909)، ووافق فينسنت على ذلك وترك المشفى وذهب إلى باريس في أيار 1890.
الأشهر الأخيرة من حياته:
كانت رحلة فينسنت إلى باريس هادئة، واستقبله ثيو عند وصوله وبقيمع أخيه وزوجته جوانا ومولودهما الجديد، فينسنت ويليم (الذي سمي على اسم فينسنت) لثلاثة أيام. لكن فينسنت شعر ببعض الإجهاد واختار ترك باريس والذهاب إلى أوفير سور أوايز. واجتمع مع الدكتور غاشي بعد فترة قليلة من وصوله إلى أوفير. واستطاع إيجاد غرفة لنفسه في إحدى المباني الصغيرة وبدأ بالرسم على الفور.
كان فينسنت مسروراً من أوفير سور أوايز التي أعطته الحرية التي لم يحصل عليها في سان ريمي، وفي نفس الوقت زودته بالمواضيع الكافية لرسمه. وانقضت الأسابيع الأولى بشكل هادئ. وفي حزيران قام ثيو وجوانا وطفلهما الرضيع بزيارة فينسنت ود. غاشي ليقضوا يوماً عائلياً ممتعاً. وبقي فينسنت طوال حزيران في حالة نفسية جيدة وكان كثير الإنتاج، فرسم بعض أعماله المعروفة مثل "صورة الدكتور غاشي" ولوحة "الكنيسة في أوفيرسور". علم فينسنت بعد ذلك بخبر غير جيد وهو أن ابن أخيه أصبح مريضاً جداً. كان ثيو يمر بأكثر الأوقات صعوبة منذ الشهور السابقة. بعد تحسن الطفل الرضيع، قرر فينسنت زيارة ثيو وعائلته فيتموز فذهب إليهم مبكراً بواسطة القطار ثم عاد إلى أوفيرسور. وفي أثناء الأسابيع الثلاثة التالية استأنف فينسنت الرسم وكان سعيداً.
في مساء 27 تموز 1890 أخذ فينسينت فان غوخ مسدساً وأطلق على صدره رصاصة بينما كان في الحقول. واستطاع العودة إلى غرفته وهو يتمايل حيث انهار على السرير.وبعد اكتشافه تم استدعاء الاطباء وتم الإقرار على عدم محاولة إزالة الرصاصة من صدر فينسنت، ثم كتب الدكتور غاشي رسالة طارئة إلى ثيو الذي وصل في اليوم التالي.
بقى فينسنت وثيو سوية حتى الساعات الأخيرة من حياته. ذكر ثيو لاحقاً بأن فينسنت أراد الموت بنفسه، فعندما جلس إلى جانب سريره قال له فينسنتLa tristessedureratoujours"إن الحزن يدوم إلى الأبد".
مات فينسنت فان غوخ وعمره37 سنة، ورفضت الكنيسة الكاثوليكية في أوفيرسور السماح بدفنه في مقبرتها لأنه انتحر، لكن مدينة ميري القريبة وافقت على الدفن والجنازة.
توفى أخوه ثيو بعد ذلك بستة أشهر وكان مصاباً بالزهري. وتوفي غوغان 1903 وعمره 54 سنة.
2- حول فنه:
رسم فان غوخ أكثر من 900 لوحة و1100 سكتش بين 1881-1890. وتعددت موضوعاته وأشهرها مناظر طبيعية في الحقول، أزهار زهرة الشمس والسوسن وغيرها، وطبيعة صامتة، وبورتريه لنفسه ولآخرين، وغير ذلك.
وفي رسمه لنفسه رسم عشرات اللوحات (أكثر من 43 لوحة) من خلال المرآة وفيها يصبح الطرف الأيمن أيسراً (في لوحته وأذنه اليمنى ملفوفة بالضماد بعد قطع جزء منها تبدو أنها الأذن اليمنى باللوحة ولكنها اليسرى في الواقع).
وفي معظم لوحاته عن نفسه كانت له لحية وأما لوحاته عن نفسه داخل المشفى فقد ظهر فيها حليقاً.
رسم كثيراً من لوحاته دون فرشاة وكان يقوم بنشر الطلاء من الأنبوب مباشرة. وتتميز أعماله بالاستعمال الصارخ والجريء للألوان. 

لوحة غرفة نوم في آرل: تبدو البساطة فيها بكل شيئ .. من طريقة الترتيب وحتى المفروشات التي بها..
اللافت للنظر في اللّوحة ألوانها المتباينة الساطعة ..وكذلك سماكة طبقة اللون،أحد جدران الغرفة يبدو مائلاً، وهذا ليس خطأ في الرسم وإنما هو واقع مطابق لانحراف تلك الزاوية من البيت.. وفي رسالته لاخيه "ثيـو" يقول إنه تعمّد رسم الأشياء بدون ظلال حتى تبدو الغرفة وكأنها رسم ياباني.
استعمل اللون الأصفر في لوحات عديدة ومنها لوحات زهرة الشمس (عباد الشمس)، ولوحة غرفة نومه في آرل، ولوحة ليلة النجوم وغيرها.. واختلف النقاد في تفسيرهم لتلك الظاهرة،  وربما يعود ذلك إلى تأثير دواء الديجيتالين الذي وصف له كمهدئ وكعلاج لنوبات الهوس والصرع والذي كان شائع الاستعمال في تلك الفترة لعلاج هذه الحالات. والذي يسبب له رؤيا هالة صفراء في كل ما يراه (رؤية صفراء) Xantopsia (yellow halos) ، وأيضاً رؤية هالة حول الأشياء Halo vision. حيث اقترح بعضهم أن ذلك نتيجة للإصابة بمرض الزرق للعين (ارتفاع ضغط العين) Glaucoma ولكن هذا المرض لا يصيب الشباب عادة. كما اقترح بعضهم أن استعمال فينسنت المتكرر لمشروب absinthe وهو نوع من الليكور والكحول له دور في الرؤيا الصفراء.
وفي تفسير آخر كان فان غوخ يؤكد في كتاباته على أهمية التوزان بين الأصفر والأزرق في لوحاته كتعبير عن نمط لوني خاص به. وهو يقول أيضاً "إن زهرة الشمس هي لي بشكل ما "the sunflower is mine in a way"، وربما كان استعماله للأصفر ناتج عن أسلوبه الفني الخاص إضافة لتأثير الديجيتانين.
وهو يعتبر أحد أعلام المدرسة الانطباعية والانطباعية الجديدة، وأيضاً المدرسة الوحشية (الوحشية أو الحوشية أو الفوفيةfauvism : كلمة فرنسية بمعنى الوحش المفترس، وهي حركة تميزت باستخدام ألوان غريبة صارخة وتحريف الأشكال بتغيير حجومها ونسبها وألوانها التقليدية. وقد أطلق الناقد لويس فوكسيل هذا الاسم على أصحاب هذه الحركة للإشارة إلى التناقض بين ضراوة ألوانهم والأساليب الشائعة. وقد ظهرت في فرنسا في مستهل القرن العشرين. ومن أبرز أعلامها ماتيس وفلامنك).
باع لوحة واحدة خلال حياته باحة الخمر الحمراءThe Red Vineyard. بمبلغ 400 فرنك فرنسي قبل بضعة أشهر من موته.
وقد رسم طبيبه د. غاشيت Dr.gachet عام 1890 وهو يحمل نبات الديجيتالين، وتعتبر هذه اللوحة الأغلى بين جميع أعماله و تبلغ قيمتها 82.5 مليون دولار، وبيعت في أيار 1990.

د. غاشيت 1890
تعرض أهم أعماله في متحف أورساي بباريس (مخيم البوهيميون، لوحات شخصية)، وفي متحف فان غوخ الوطني في أمستردام بهولندا.
وقد كان لفان غوخ تأثير كبير في السنوات اللاحقة.. فقد ألهم كثيرين .. وتم تقليد نمطه في الرسم من قبل عدد من الفنانين، ونسخت لوحاته آلاف المرات.
ويعتبر فان غوخ رساماً عظيماً استطاع أن يؤكد على أهمية اللون في اللوحة مقارنة مع أهمية الشكل ودقته.
3- اضطرابه النفسي:
لا يوجد حالياً إجماع حول حالته الصحية والنفسية ..  من قبل مؤرخي الفن والنقاد والأطباء.
ويبدو واضحاً من خلال سيرة حياته أنه كان يعاني من نوبات دورية متناوبة من الاكتئاب والنشاط الزائد ويرافق ذلك أعراض ذهانية مثل الهلوسات والهذيانات، إضافة لأعراض التهيج والغضب والسلوك الغريب مع نوبات من اختلاط الذهن وفقد الوعي ونسيان الأحداث.
وقد شخص الأطباء المعالجون له نوبات الصرع الصدغي وعولج بمادة الديجيتالين المشتقة من النبات. ولا يبدو أنه كان يعاني من الصرع الأساسي وربما كانت الأعراض الصرعية ناتجة عن التسمم بمواد كيميائية كان يتناولها مثل الرصاص (الموجود في ألوان الرسم وكان نهماً ويأكل الألوان، ويؤدي التسمم بالرصاص إلى أعراض هضمية وآلام في المعدة وفقر دم ونوبات صرعية محتملة ونوبات اختلاط ذهني حادة). أو مادة ثوجون Thujone الموجودة في مشروب "الأبسينثي Absinthe" الذي كان يتناوله بكثرة (نوع من الليكور وهو مشروب كحولي لونه أخضر عادة، وتركيزه الكحولي حوالي 45-75% وهو مشتق من زيت نبتة خضراء وكان شائع الاستعمال في فرنسا وأوربا ثم جرى حظره على اعتبار أنه مرتبط بالعنف والجريمة وفقاً للتصويت الشعبي، كما أنه يحتوي على نسبة عالية من مادة ثوجون التي تسبب نوبات صرعية ويمكنها أن تسبب أيضاً الرؤيا الصفراء.. وقد سمح بهذا المشروب وعاد ثانية في فرنسا عام 2000  وغيرها من البلدان. وفي بريطانيا واسبانيا لم يتم منعه أصلاً ولكنه ليس شعبياً. والتشريعات الحالية في الولايات  المتحدة والاتحاد الأوربي تتطلب أن لا يحتوي على مادة ثوجون مطلقاً أو بنسبة خفيفة).
وتضمنت التشخيصات التي طرحت لتفسير حالته النفسية والجسدية:
- اضطراب المزاج ثنائي القطب (الهوس الاكتئابي): وهو التشخيص الأرجح وفقاً لمعايير التشخيص الحديثة ووفقاً لأحداث سيرته الشخصية.
- اضطراب الشخصية الحدية: وفي سيرته مايقارب وصف هذه الشخصية وفقاً للمعايير التشخيص الحديثة (الاندفاعية – عدم التوازن الانفعالي – تغيرات مزاجية حادة – سلوكيات إيذاء الذات – خوف من النبذ – صورة غير متوازنة عن الذات - علاقات مضطربة).
- وأما التشخيصات الأخرى التي لا يوجد دليل مقنع عليها فهي: ضربة الشمس – داء منيير – بورفيريرا حادة متقطعة – زهري (سيفلس) دماغي - داء الزرق - الفصام – الشخصية النرجسية.
وباختصار .. فإن التشحيص الأرجح هو اضطراب المزاج ثنائي القطب وهو يفسر نوباته الاكتئابية والهوسية وانتحاره .. إضافة إلى أعراض صرعية، واختلاط ذهن، ورؤية صفراء، ناتجة عن التسمم بالرصاص أو الديجيتالين أو كليهما ، وربما عن التسمم بمادة ثوجون أيضاً.
ملاحظة أخيرة: في الحديث عن تشخيص حالة فينسنت فان غوخ من الضروري الاهتمام بالقصة العائلية المرضية وأفراد أسرته .. ولا يوجد في جميع المصادر أية تفاصيل دقيقة.. ولكن من المفيد أن نعرف أن أخته الصغرى أصيبت بحالة نفسية شديدة وهي بعمر الأربعين سنة وقضت بقية عمرها في مشفى نفسي. وأيضاً أن أخاه الأصغر أطلق على نفسه الرصاص ومات منتحراً في عمر 33 سنة ..ويشير ذلك إلى وجود عوامل وراثية قوية في أسرته وهذا ما يرجح نظرية الاضطراب المزاجي حيث أن 3 من الأخوة من أصل 6 أصيبوا بحالات نفسية شديدة.
*  - أخته الصغرى ويليمين (1862-1941) لم تتزوج عاشت مع أمها وعملت كمربية وممرضة لفترات، وساهمت في النشاط النسوي كموظفة ناجحة في مكتب معرض عمل المرأة. كانت قريبة من فينست والوحيدة التي كان يراسلها. أصيبت بحالة نفسية ودخلت مشفى نفسي وماتت فيه، وكانت صامتة إلا نادراً وتجلس في نفس الوضعية فترات طويلة، وترفض الطعام ويتم إطعامها بشكل طبي. وأطلق عليها تشخيص الفصام.
- أخوه الأصغر كورنيليوس (1867-2000) عمل في لندن فترة ثم ذهب إلى جنوب أفريقيا وعمل كمهندس في شركة للذهب ثم في السكك الحديدية وشارك في الحرب المحلية. تزوج لمدة 9 أشهر. أطلق على نفسه الرصاص ومات منتحراً. 
المراجع:

 ملاحظة: هذه المقالة نشرت في مجلة حياتنا التشكيلية - وزارة الثقافة / صيف - 2016 - دمشق - سورية.