"نمتلك الفن كي لا نموت من الحقيقة"
د. حسان المالح
مقولة جميلة ومؤثرة للأديب والفيلسوف الألماني نيتشه (1844-1900) وقد ترجمت بعدة صياغات ومنها نقتني الفن كي لا تقتلنا الحقيقة، لدينا الفن كي لا تهلكنا الحقيقة، وغيرها. والترجمة الحالية عن الإنكليزية وقد كتب نيتشه بالألمانية وترجمت أعماله إلى مختلف اللغات. وبعيداً عن دقة الترجمة ومطابقتها للنص الأصلي.. المهم هو المعنى العام المطروح العميق وهو أن للفن وظيفة حياتية مفيدة تجعل الحياة أجمل، وفيه نقيض للموت والفناء.
ويعلق بعضهم بأن مقولة نيتشه مبالغ فيها من حيث أن الفن نقيض الموت.. وأن الفن للحياة وأن الحياة ليست كئيبة جداً.. وربما كان ذلك صحيحاً جزئياً.. ونيتشه بدأ أديباً ثم انتهى فيلسوفاً.. ولغة الأدب تتميز بالمبالغة والتعميم والحدة، وهي ليست لغة هادئة دقيقة وعلمية. كما أنه كان يعاني من اضطراب ثنائي القطب الذي يتميز بفترات اكتئابية وفترات من النشاط والإبداع. وهو على كل حال مبدع وله نظرات ثاقبة وعميقة.. ومنها أن جوهر الحياة فيه عبث وحزن وموت. بينما يؤكد المتفائلون على جمال الحياة وملذاتها وزقزقة العصافير الفرحة. وبعضهم الآخر بين هذا وذاك.
ومن البديهي أن الحياة لها أحزانها ولها أفراحها، وترتبط نظرة الشخص تجاه الحياة بتكوينه النفسي وظروفه ومرحلة العمر التي يمر فيها.. ودائماً التعميم خطأ منطقي.. ولا شيء يدوم.
وعودة إلى وظيفة الفن أو وظائفه المتعددة.. وقد فصلت ذلك في كتابي دراسات وإضاءات في الطب النفسي 2020.
وباختصار.. يعتبر الرسم أحد الأساليب التعبيرية التي يملكها الإنسان، وهو يمثل قدرة ثقافية يترفع بها عن عالم الحيوان، مثلها في ذلك استعمال اللغة ومختلف أنواع الفنون.
ومن خلال الرسم يمكن للإنسان أن يسيطر على الموضوعات والأشياء التي يرسمها والتي تشكل له قلقاً وتوتراً. والإنسان القديم مثلاً رسم الحيوانات المفترسة مما ساعده في السيطرة عليها ومكنه من تخفيف خطرها وبالتالي أعطاه ذلك إحساساً خاصاً بالأمان والقوة.
ويعتبر التعبير والتنفيس الانفعالي من خلال التعبير عن النفس وانفعالاتها ورغباتها وتصوراتها وخيالاتها وكل ما يدور في العقل والنفس.. أسلوباً مفيداً من الناحية النفسية، وتشترك الفنون بأشكالها المتنوعة إضافة إلى التعبير اللغوي الكلامي في هذه الوظيفة التعبيرية التنفيسية.
وببساطة يمكن تحديد عدة نقاط حول وظائف الفن:
1- يرتبط الفن بالتعبير عن الذات ومشاعرها ورغباتها وإحباطاتها وأفكارها ويختلف الأشخاص في تكوينهم وقدراتهم وميولهم وحالاتهم النفسية وقدراتهم التعبيرية. وهذه الوظيفة التعبيرية تعطي نوعاً من التوازن والاستقرار لصاحبها.
2- الفن وسيلة تواصل مع الآخر والآخرين وفيه رسائل متنوعة متبادلة بين الفنان والآخرين وفيه تحقيق للذات في تفاعلها وحوارها مع الآخر وتأثيرها فيه وتأثرها به.
3- الفن له جانب ثقافي واجتماعي وتختلف المجتمعات في ثقافتها وتكوينها وفنها وضوابطها. ومن أمثلة ذلك الفنون الشعبية الخاصة. واستخدام الفن في المجال السياحي وفي المجال التجاري أو التفاخر باقتناء لوحة أصلية، أو أن الفن للفن فقط أو أنه لخدمة المجتمع أو تغييره أو تطويره.. وغير ذلك.
وأخيراً.. من المؤكد أن الفن الجميل يجّمل الحياة ويجعلها أجمل وأروع وأعمق.. وهو يداعب خيالاتنا وأحلامنا ورغباتنا ويضيف إلى ثقافتنا وأفكارنا ويساعدنا على التوازن والنمو والمضي قدماً في الحياة.