بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 15 ديسمبر 2017

الإنسان "عاقل جزئياً" .. وضرورة السعي نحو العقلانية:

الإنسان "عاقل  جزئياً" .. وضرورة السعي نحو العقلانية:
 د. حسان المالح
 

يبدو أن الكائن الإنساني ليس عاقلاً تماماً .. ولكنه عاقل بشكل جزئي ..
والعقل هنا بمعنى المنطق والعقلانية في التفكير والاختيار. والمثال الواضح على ذلك هو ظاهرة الأحلام أثناء النوم، وفيها يبدو اللامنطق بأوضح صوره .. حيث نتحدث في الأحلام مع أشخاص قد ماتوا أو هم بعيدين عنا، ونقوم بتصرفات غير منطقية على الإطلاق.
ويقال "كلنا مجانين أثناء النوم" .. وهذا صحيح بالطبع .. وتفسير ذلك أن الأحلام هي نوع من اللعب التخيلي الذي يرضي بعض حاجاتنا ورغباتنا الشعورية أو اللاشعورية المحبطة وغير المتحققة .. وغير ذلك من التفسيرات. والمهم أن تكون هذه اللاعقلانية أثناء النوم فقط، ولا تطغى على حالة الصحو واليقظة.
ويتجلى اللامنطق واللاعقلانية عند الأشخاص المرضى المصابين بالاضطرابات النفسية الشديدة الذهانية مثل الفصام والهوس والاضطراب الذهاني الزوري والاضطرابات الذهانية الناتجة عن استعمال المواد الإدمانية أو بعض الأمراض العضوية مثل أورام الدماغ وغيرها. والذهان بالتعريف هو فكرة أو مجموعة أفكار واعتقادات غير منطقية يقتنع المريض بها ولا تتغير  بالمناقشة المنطقية السليمة.
وفي هذه المقالة نتحدث عن الإنسان العادي غير المريض وغير الذهاني. والذهان مرض واضطراب له تفسيراته وأسبابه الطبية النفسية وله علاجاته المناسبة. أما الإنسان العادي فهو كائن عاقل ومنطقي .. ولكن بشكل جزئي فقط ونسبي .. كما يتضح من الأمور التالية:
1- إن السلوكيات المرتبطة باتخاذ قرار أو حكم أو اختيار معين في الأمور العادية اليومية، مثل شراء سيارة أو حذاء أو هاتف نقال أو غيره .. يتم غالباً وفقاً لمعلومات ناقصة .. ومن النادر أن يجري الإنسان بحثاً علمياً منطقياً وشاملاً لسوق السيارات وأنواعها وتفاصيلها قبل أن يشتري سيارة معينة .. وهو يبني قراره على معلومات محدودة وخبرة سابقة ويقتنع بما فعله ويعتبر سيارته ممتازة ..
وكذلك الحال عندما تسأل شخصاً عن رأيه في قضية عامة يومية أو اجتماعية او سياسية .. مثل موضوع هل الإجهاض يسمح به ومفيد أم أنه حرام وممنوع وغير مقبول بشكل مطلق .. وتتنوع الإجابات بالطبع وفقاً لمعلومات الشخص وثقافته ومزاجه .. والجميع يتسرع ويفتي في أمور كثيرة لا يعرف عنها إلا قليلاً. ومن النادر أن تجد رأياً صائباً متروياً ومطلعاً .. وفي ذلك نقص واضح في العقلانية والمنطقية وفي طرق اتخاذ القرار وتكوين الرأي.
2- السلوكيات المرتبطة بالانفعالات المتنوعة كالفرح والغضب والخوف والقرف وغيرها .. كلها تتدخل في العقلانية والمنطقية وتجعل الشخص أقل تعقلاً. وكثيرون يندمون على تصرفاتهم في لحظة غضب أو خوف ويحاولون أن يكونوا منطقيين وعاقلين أكثر في مرات قادمة.
3- في علاقات الحب يبرز السلوك غير المنطقي في كثير من الحالات .. ويقال أن "الحب أعمى" حيث يجعلك لا ترى عيوب المحبوب في شكله أو سلوكياته أو عدم ملاءمته لك .. ومع ذلك تستمر العلاقة ويستمر التعلق فترات متفاوتة .. ثم يصحو المرء من غفلته وقلة عقله .. ويحدث الانفصال أو الطلاق ومن ثم يتم البحث عن حب آخر.
4- التعلق بالأشخاص أو الأشياء أو الأمكنة أو الأزمنة .. وكذلك الأفكار والمعتقدات والمسلمات والبديهيات التي نحملها والعادات والتقاليد وغيرها .. يمكن أن تصبح نوعاً من التعلق الشديد المبالغ فيه، ونوعاً من الإدمان المرضي ( تعبير مجازي وليس إدمان حقيقي).
ومثال ذلك بعض الذكريات القديمة عندما نعود إليها دون داع منطقي، وبعض العادات السيئة اليومية وبعض الأفكار التكرارية وغير ذلك .. وفي ذلك لا منطقية ونقص في العقلانية ومع ذلك نستمر في تلك السلوكيات .. ويرجع ذلك إلى دوافع التعلق والتوظيف الانفعالي المرتبط بتلك الأمور والذي نشأ لأسباب متنوعة ولكنه بعد ذلك فقد صوابيته وضرورته ومع ذلك نستمر به.
5- التعلق بالخرافات والأساطير والتنجيم والأبراج والعلاجات الشعبية أو الموروثة، دون دليل علمي مثبت.
وفي ذلك نقص في المنطق والعقلانية والتفكير السليم .. وهو يعكس نقصاً في الثقافة العلمية بالتأكيد .. وربما يعكس ذلك وجود اتجاه عميق غير منطقي نحمله في دواخلنا .. لتجاوز العقل والمنطق ومعاكسته والتفلت منه، إرضاء لرغباتنا الطفولية والنرجسية والخيالية.
ولا بد من الإشارة أن الدماغ نفسه يحتوي على نصفي كرة أيمن وأيسر .. ويتميز النصف الأيسر بأنه يقوم بوظائف تحليلية ومنطقية ولغوية، بينما النصف الأيمن له وظائف فنية وإبداعية وحدسية وانفعالية .. ومعظم الأشخاص يستعملون نصفي الكرة الأيمكن والأيسر معاً، ولكن ربما بدرجات متفاوتة وفقاً لتكوين الشخص وتعليمه وخبراته المتنوعة.
وكما هو واضح مما سبق .. فإن العقل البشري يتميز بالخيال والانفعالات والتعلق الوهمي ومحدودية المنطق والعقلانية .. ولا يوجد عقل كامل أو مجرد.
وبالطبع فإنه من الضروري ان يكون الإنسان أكثر عقلانية ومنطقية في معظم الأمور .. ولا بد من الانتباه إلى هذه النواقص والعمل على تعديلها في الفرد والمجمتع قدر الإمكان ولاسيما في الأمور الهامة الكبيرة .. ويتطلب ذلك مزيداً من التعليم والاطلاع، ونشر الثقافة العلمية والوعي العلمي، وإتاحة الفرص للحوار وتبادل الآراء ووتقييمها وتعديلها وتغييرها ..
ولا بد من الذكاء الانفعالي (العاطفي) وتحسينه وتنميته .. ويتضمن ذلك التعرف على الانفعالات الشخصية وضبطها وتعديلها قدر الإمكان بما يتناسب مع الموقف. ولا بد من عقلنة الانفعالات بدلاً عن انفلاتها ..
وأخيراً .. الجهل والخرافة لا يصنعان نجاحاً أو تقدماً .. ولا بد من توفر المعلومات وتحديثها وزيادتها بكل الطرق الممكنة، عند الأفراد وفي المجتمع. ولا بد من تطوير أسس التفكير العقلاني المنطقي وتعديل أساليب التفكير غير المنطقية (كما في العلاج المعرفي الإدراكي)، وأيضاً تطوير وتشجيع الأسئلة والتساؤل والتفكير النقدي (نقد الذات والآخر) في مختلف المجالات الشخصية والاجتماعية.
الإنسان "عاقل جزئياً" .. ومن الضروري له أن يسعى نحو العقلانية.
دمشق 15-12-2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق