"خاطرة أدبية نفسية"
فرويد والمكتبة الظاهرية بدمشق!!
د. حسان المالح
من ذكرياتي الجميلة التي لازلت أذكرها جيداً وقد مضى عليها حوالي 47 سنة، أنني بعد تقديمي لامتحان البكالوريا عام 1973، وقد تعودت على الدراسة والجد والقراءة وقدمت امتحانات جيدة وكنت دائماً من الأوائل والمتفوقين، لم أجد ما أفعله في العطلة الصيفية التي تتلو الامتحان سوى أن أذهب إلى المكتبة الظاهرية العريقة قرب الجامع الأموي بدمشق يومياً.
وكنت قد تعرفت على أسماء لمشاهير في الفلسفة وعلم النفس من خلال المرحلة الثانوية ومن خلال قراءاتي العامة المتنوعة. ولم أكن أعرف كثيراً عن هؤلاء إلا معلومات بسيطة وشذرات من هنا وهناك. وقررت أن أقرأ عنهم بالتفصيل تدفعني رغبات عقلية في الفهم والمعرفة وميولي نحو الأمور النفسية التي ظهرت مبكراً.
كنت أنزل من بيتنا في حي المهاجرين وأركب الباص إلى شارع النصر قرب سوق الحميدية، ثم أمشي إلى نهايته وانعطف يساراً إلى المكتبة الظاهرية.
وجدت نفسي في المكتبة الظاهرية واقتربت من قسائم العناوين المحفوظة ضمن أدراج خاصة وبدأت أبحث عن فرويد وكتبه. وكان له أكثر من 30 كتاباً مترجماً للعربية أو عنه.
وبدأت يومياً باستعارة كتاب أقرأه كله في قاعة المطالعة في الطابق الأول خلال ساعات النهار وبعد الظهر وأدون بعض الملاحظات والمقتطفات على ورقة خاصة بي.
حولي كان عدد من القراء من أعمار مختلفة، وكان الجو لطيفاً وهادئاً دون ازدحام، وبعض الباحثين الكبار أراهم يتصفحون مخطوطات أو كتب ويدرسونها.
وعندما تحل الظهيرة أو بعدها وأشعر بالجوع، كنت أخرج لساعة أو نحوها أتمشى في تلك المنطقة العريقة وشوارعها الملتفة "محل ما ضيع القرد ابنه"، وكنت أتناول سندويشة فلافل لذيذة أو غيرها مما يتيسر وجوده في الأسواق في ذلك الزمان.
ثم أعود لأكمل كتابي وأنهيه تماماً.
وبقيت على هذه الحال حوالي شهرين وربما قرأت خلالها 30 كتاب لفرويد وغيره.
وبالتأكيد فإن هذه التجربة المبكرة كان لها دور هام في ازدياد ولعي واهتمامي بالعلوم النفسية ودراستها بعد دخولي كلية الطب بشكل أوسع منذ السنوات الأولى الجامعية، حيث كنت مهتماً بالطب النفسي والعصبي نظرياً وعملياً وكنت "حلال مشاكل" عند الأصدقاء، كما كان لدي عدد من الحالات المرضية النفسية التي تجرأت على فحصها والسير في علاجها من أوساط الطلبة بشكل تجريبي وعملي وكانت النتائج جيدة ومشجعة.
وبالطبع فرويد "له ما له وعليه ما عليه"، وكانت مرحلة بالنسبة لي ضمن فترة المراهقة وبداية النضج، ولا زلت أذكرها واستمتع بتفاصيلها وحماسها، ولكنها أصبحت اليوم ذكرى، مثل كثير من الذكريات التي عشناها نتعلم منها دروساً وخبرة، وتضيء للقادم الجديد من الأيام.
دمشق 18/9/2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق