بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 14 يناير 2021

شخصيتك من كلامك؟

 

شخصيتك من كلامك؟

الدكتور حسان المالح

تتميز الثقافة الحديثة بأنها ثقافة الكلام والتعبير عن الرأي والذات. وتعزز وسائل التواصل الاجتماعي أهمية التعبير عن النفس والحياة اليومية وعن الآراء والرغبات والسلوكيات المتنوعة.

ويمكن لمقطع من كلام شخص وحديثه أن يعطينا دلالات عامة متنوعة قد تكون صحيحة عن تكوين الشخص الذي قال تلك الكلمات.

ويحتاج تحليل الكلام إلى خبرة ودراية وعلم. ويمكن أن يفيد ذلك في عدة أمور، وفي العيادة النفسية يمكن أن يتوجه الطبيب نحو تشخيص معين من خلال مقطع قصير من كلمات المريض، ولكن طبعاً يحتاج التشخيص إلى فحص نفسي كامل قد لا تكفي جلسة واحدة له. وفي القضايا الجنائية، يمكن لتحليل كلمات الشخص المنطوقة أو المكتوبة (في مضمونها، أو في شكل كتابتها والمعروف بتحليل الخط) أن يعطي معلومات عن قائلها أو كاتبها يمكن أن تؤدي إلى الوصول إلى المشتبه به.

وفي الحياة اليومية كلنا لدينا خبرات في تحديد بعض ملامح الشخص من خلال عينة من كلامه. كأن نقول إن هذا شخص ذكي، أو مثقف، أو لطيف، أو جاهل (غبي)، أو مرتبك، أو نرجسي، أو مكتئب، أو غامض، وغير ذلك كثير.

وفي وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج المحادثات يبدو لك جلياً في كثير من الأحيان عدة ملامح للشخص الآخر من خلال بضع كلمات تحدث بها.

ويدل الكلام العامي أو غير الصحيح لغوياً على ضعف ثقافة الشخص وتعليمه. وتدل الكلمات التي تؤكد على العظمة والنجاحات وعلى استعمال كلمة أنا على النرجسية وحب الذات المفرط، وتدل العبارات المتكررة على القلق والوسوسة، كما يدل تنميق الكلام وحذلقته على الاستعراض أو الوسوسة. والكلام الزائد الذي ينتقل من فكرة إلى أخرى يدل على تشتت الانتباه أو الهوس. وعندما يكثر في الكلام عبارات مثل يجب والقواعد والأفضل ودائماً.. على المثالية الزائدة وحب النقد، وغير ذلك مما يدرس في علم النفس واللغة.

وطبعاً تتضمن الشخصية أقوالها وأفكارها وانفعالاتها وسلوكياتها.. وكل ذلك لا بد من التعرف عليه في مواقف متنوعة كي نستطيع أن نطلق أحكاماً أكثر دقة وصحة على الشخص الآخر. وكما يقال "هل سافرت معه؟ وإلا فأنت لا تعرفه".

ومن الأمور الهامة التعرف على لغة الجسد أو اللغة التعبيرية غير المنطوقة، من خلال الإشارات غير اللغوية لفهم الشخصية وأقوالها وسلوكياتها. مثل نبرة الصوت وفترات الصمت وتعبيرات الوجه واليدين والجسم. وكل ذلك له دلالات في تفهم أقوال الشخص الآخر.

وبالتأكيد فإن فهم الشخصية بشكل صحيح وكاف ربما يحتاج إلى تعارف طويل وفي مواقف متنوعة، وإلى اختبارات الشخصية المتنوعة.

ولكن يبقى أن كلام الشخص يمكن أن يعطي فكرة عن شخصيته. وعندما يكون كلامه ناقصاً أو قليل الطلاقة أو (ما بيعرف يحكي منيح)، يعطي معلومات خاطئة عن الشخص لأنه لم يطور أسلوبه اللغوي والكلامي، كما أن ذلك يحرم الشخص من تحقيق ذاته في مختلف المجالات بسبب ضعف مهاراته اللغوية.

ويتميز العصر الحديث بأنه عصر الكلام والتعبير عن الذات والفردية وعن الرأي. ويبدو ذلك في مختلف نواحي الحياة، في الأوساط العلمية والطبية والمهنية والاجتماعية المختلفة.

ويتطلب التواصل اللغوي ثقافة لغوية متنوعة وقدرات على التعبير اللفظي الكلامي والمكتوب. وأيضاً يتطلب وجود إمكانيات للتعبير ودرجة من الحرية والقبول وتعدد الآراء.

بينما تتميز العصور القديمة والمجتمعات الأكثر تخلفاُ بمحدودية التعبير والكلام. وتتميز لغتها بالأقوال والقوالب الجاهزة، واللغة الخشبية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وبالتخلف والقهر والصمت وقلة الكلام والرأي الوحيد الصحيح.

ونجد في العصر الحديث مرونة لغوية وتنمية للغات المعروفة وزيادة في مفرداتها وتعبيراتها عن الذات والانفعالات والأفكار والرغبات، وفق متطلبات العصر وتغيراته ومستجداته.

والتنمية اللغوية تحتاج إلى المطالعة والدراسة، وتحتاج إلى الاستماع إلى الآخرين، وإلى تنمية أساليب الحوار والنقاش، وإلى التدريب على الكلام. كما تحتاج إلى التشجيع على إبداء الرأي والإبداع، بدلاً عن الصمت والخوف والعقاب والمنع.

ويتميز بعض الأشخاص بالفصاحة والطلاقة اللغوية في الكلام. ولا يمكن للجميع أن يكونوا طليقين وخطباء مفوهين. وبعض الأشخاص ليس لديهم مهارات لغوية وتعبيرية كافية، ولم يتدربوا على الحديث أمام الآخرين في المناسبات المهنية أو الاجتماعية. وهم يتحدثون قليلاً أو لا يتحدثون، وينفعلون غاضبين أو صامتين لأن مهاراتهم اللغوية والمعرفية والتعبيرية ناقصة. ومن حولهم يمكن أن يأخذ عنهم انطباعات خاطئة غير صحيحة. وهم محبطون لأنهم عاجزون عن تحقيق ذاتهم او التفاهم مع الآخرين بشكل مناسب.

وهناك كثيرون يعانون من الارتباك والخوف عند الحديث مع الآخرين أو أمامهم. وهذا يعرف باضطراب القلق الاجتماعي أو الرهاب الاجتماعي والخجل المرضي. حيث يتعذر على هؤلاء التعبير عن أنفسهم ورغباتهم وحقوقهم وأفكارهم، بدرجات متفاوتة. وهم يصابون بالقلق والتوتر أو ينسحبون من المواقف الاجتماعية المحرجة التي تتطلب التعبير والكلام، وهم يحتاجون إلى العلاج الطبي والنفسي. وأذكر أن أولى الحالات التي ساهمت بعلاجها عندما كنت طالباً في كلية الطب ومولعاً بالأمور النفسية، كانت لطالب جامعي متفوق في الهندسة الكهربائية وكان حين يطلب منه الأستاذ أن يخرج إلى السبورة لحل مسألة معينة، يستجمع قواه ويخرج ليقول للأستاذ لا أعرف، مع أنه الأول على دفعته، بسبب الارتباك والقلق.

ويبقى مضمون الكلام هو الأهم في تقييم الشخص. والكلام المفيد والإيجابي يضيف علماً أو تنويراً حول موضوع معين، وكذلك السؤال الذكي، والإضافة الناجحة، والفكرة الجديدة أو الإبداعية التي تضيء ما حولها. وكل ذلك إسهامات للأشخاص تغني الحياة وتساهم في تطويرها.

وفي قصة جميلة عن أبي حنيفة أنه كان يتحدث في مجلسه وهو جالس ورجله ممدودة. ودخل على المجلس رجل مهيب الطلعة يضع عمامة كبيرة، وعندها أصلح أبو حنيفة جلسته وثنى رجله الممدودة. وبعد قليل قام الرجل المهيب وسأل: يا أبا حنيفة متى صلاة الصبح؟ فأجابه قبل شروق الشمس. فقال الرجل وإذا لم تشرق الشمس؟ عندها تبسم أبو حنيفة بعد أن كان متوتراُ وقال عندها يمد أبو حنيفة رجله ولا يبالي. فقد عرف ان هذا الرجل السائل أحمق أو جاهل وسؤاله غير المنطقي يدل على ذلك.

ولا بد لك من تنمية مهارات التواصل والحوار، وأن تعرف الموضوع الذي تريد التحدث عنه أو المشاركة في حوار حوله. ولا بد لك أن تحسن الإصغاء، وأن تعرف متى يمكنك أن تتكلم، وأن تطور أساليب ناجحة في عرض رأيك ووجهة نظرك. وغير ذلك من مهارات الكلام والحوار.

وأخيراً.. في مجتمعاتنا ومع ضرورات التنمية والتحديث وإعادة البناء، لا بد من تنمية المهارات اللغوية والتعبيرية إلى الحد المقبول والمناسب للتعبير عن الذات وتحقيقها.

ولا بد من التشجيع على إبداء الرأي منذ الطفولة والمراهقة إلى الشباب والرشد.  وتشجيع الحوار الكلامي وأن نقول للطفل والطفلة ما رأيك أنت؟ وكذلك للمراهق والشاب والراشد، وللمرأة والرجل. وأيضاً لا بد من الاستماع إلى الآخرين والحوار معهم وتعلم أساليب النقاش والسؤال وإبداء الرأي وتقبل الرأي الآخر. وذلك في مختلف الأوساط الأسرية والمهنية والعامة.

وكل ذلك يمكن أن يفسح المجال للتطوير والإبداع والتعبير عن الذات ومهاراتها وقدراتها. ويساعد على انطلاق المواهب واكتشاف الطاقات المفيدة المخبأة، ويساهم في تعديل الأفكار والأساليب الخاطئة غير المفيدة، بعيداً عن الصمت أو السباب أو الخجل المرضي.

وهكذا العصر الحديث.. عصر الكلام والآراء والإبداع والتعبير عن الذات وتحقيقها.

 دمشق 15/1/2021

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق