بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 27 سبتمبر 2017

ملاحظات نفسية اجتماعية حول فيلم "قوة قاهرة" Force Majeure

ملاحظات نفسية اجتماعية حول فيلم "قوة قاهرة" Force Majeure   
د. حسان المالح
فيلم جميل ومختلف لمخرج سويدي Ruben Östlund، إنتاج 2014، حاز على عدة جوائز .. وهو يطرح تساؤلات أساسية نفسية وحياتية تتعلق بالخوف من الموت وكيف نتصرف تجاه خطر الموت الداهم الذي يمكن أن يفاجئنا. وهل نتخلى عن قيمنا الأخلاقية ونتصرف بشكل أناني أو غيري تجاه أسرتنا. كما يطرح أهمية الأسرة، وأهمية حياة الفرد، وأن الظروف والقوة القاهرة تتحكم بردود أفعالنا وسلوكنا وأنه لا يمكننا أن نلوم أحداً.
الأحداث الرئيسية:
تدور الأحداث الرئيسية في فندق فخم في جبال الألب الفرنسية في رحلة تزلج لمدة أربعة أيام، تقوم بها أسرة سويدية وفيها أب رجل أعمال مع زوجته وطفلين صغيرين ابنة في حوالي الثامنة من العمر وابن حوالي الخامسة.
وبينما كانت الأسرة وغيرهم من الزوار يستعدون لتناول الغداء في مطعم يطل على الجبال الثلجية ظهر صوت انهيار ثلجي من الجبل وتبعه منظر تدحرج كميات من الثلج الأبيض ووقف الجميع يشاهدون المنظر الجميل ويصورونه بكاميرات الموبايل .. وبعدها اقترب الانهيار الثلجي من المطعم وادى إلى حالة من الرعب والذعر والهروب.
أخذ الأب موبايله ونظارته الشمسية وهرب بحذائه الثلجي .. اما الأم فقد انحت على طفليها تحميهم ولم تستطع الهرب .. وبعد زمن قصير انقشعت الموجة الثلجية وتوفق الانهيار قريباً من المطعم .. ولم يصب احد بأذى .. ورجع الجميع إلى طاولاتهم ورجع الزوج واكملوا طعام الغداء دون كلام.
وانزعجت الزوجة من هروب الزوج وعندما تحدثت معه في الموضوع قال لها إنه لم يهرب وأنه كان موجوداً وأن روايتها للحدث رواية شخصية.
وفي اليوم التالي وعند استقبال صديق ذو لحية حمراء كثيفة مع صديقته الصغيرة على العشاء في غرفتهما تبادل الجميع أحاديث مقتضبة وفتحت الزوجة قصة الهروب أمام الضيوف وأنكر الزوج القصة .. وحاول الصديق تعليل الموقف وأنه سلوك فطري غير منطقي، وأن الأب هرب كي يعود لحماية أسرته مثل مايحدث في حالات نقص الأوكسجين في الطائرة حيث يضع الأب قناع الآوكسجين لنفسه أولاً ثم لأطفاله. وفي الأيام التالية مارس الزوج التزلج مع طفليه وانعزلت الزوجة وحدها غاضبة .. وبعد ذلك شعر الزوج بالذنب وصار يبكي ويصرخ أمام زوجته واعترف لها بذنبه .. وأتى الأطفال من سريرهم لمواساة الأب وأصرت الابنة على الأم أن تنضم للجميع في مواساته وهو متمدد على الأرض ووجهه نحوها يبكي وصار الجميع فوقه في عناق جماعي جميل. وفي اليوم التالي ذهبت الأسرة للتزلج معاً وقاد الأب المجموعة في مكان منعزل والثلج يغطي كل شيء ويمنع الرؤية إلا لمسافة قصيرة .. وابتعدت الزوجة ثم اختفت .. وناداها الزوج عدة مرات ثم ذهب إليها وعاد يجملها بعد أن سقطت.
وفي اليوم الأخير ركب الجميع الحافلة في طريق العودة من الجبال .. وكان الطريق صعباً وخطراً والسائق لا يحسن الالتفاف .. وصرخت الزوجة فيه تنبهه وتطلب من احد آخر أن يسوق الحافلة .. وبان الخوف على الجميع وفي متابعة النزول كاد السائق أن ينحرف إلى منحدر عميق .. وصرحت الزوجة ونزلت من الحافلة.. وتراكض الجميع للخروج وصرخ الصديق ذو اللحية الحمراء بالجميع أن يهدئوا ويخرجوا بهدوء وانتظام .. وتابع الجميع مسيرهم على الأقدام  دون كلام.
وهناك أحداث أخرى تفصيلية خلال الأيام الأربعة يمكن الرجوع إليها عند مشاهدة الفيلم.
ملاحظات من الناحية الفنية:
فيلم جميل وفيه لقطات تصويرية متميزة ومعبرة وموسيقا مناسبة لطيفة. وهو بطيء نسبياً ( ساعتين) وفيه إطالة لبعض المشاهد ربما لإتاحة الوقت لتفكير المشاهد وإثارة ذهنه، أو لخلق حالة من الترقب والإثارة. ومعظم الوجوه كانت جامدة وتعبيراتها مدروسة وغير تلقائية .. وربما كان المخرج يحرك الممثلين والمشاهد بعقلانية مفرطة ودقيقة إلا في بعض المشاهد الانفعالية الجميلة مثل مشهد العناق الجماعي فوق الأب.
ملاحظات نفسية اجتماعية:
1- عنوان الفيلم "قوة قاهرة" مأخوذ من اللغة الفرنسية force majeure  وهو مصطلح قانوني ويعني أنه بسبب ظروف قاهرة فإن كلا الطرفين غير مسؤولين عن سلوكهما .. ويستعمل هذا المصطلح في عقود التأمين والاضرار الناتجة عن حوادث طبيعية وما يشبهها.
وفكرة الفيلم أن الزوج ليس مسؤولاً عن سلوكه تجاه خطر الموت الداهم الذي كان يواجهه عند حدوث الانهيار الثلجي .. وكذلك الزوجة عندما نزلت من الحافلة وحدها بعد خوفها من تدهور الحافلة دون أن تنتبه لطفليها وزوجها. وكذلك سلوك الجميع الفوضوي تجاه الانهيار الثلجي وتجاه تدهور الحافلة.
وتعكس هذه الفكرة الرئيسية نظرة واقعية متسامحة  تجاه الإنسان في حالة الخطر وسلوكه الغريزي .. وهناك درجة من الأنانية الطبيعية المقبولة عند الرجل وعند المرأة أيضاً .. وتختلف شدتها ودرجتها من شخص لآخر وفقاً لشخصيته وتربيته وقيمه العليا وظروفه .. وحاول الفيلم إقناعنا أن سلوكه لم يكن شراً خالصاً بل هو إنساني وواقعي .. وأنه رجل أسرة وقد قام بعدة سلوكيات أخرى لطيفة وغيرية وحامية لأسرته.
كما بين في نهاية الفيلم أن الأم قد تصرفت بشكل أناني عندما أصرت على الخروج من الحافلة بنفسها وكانت محقة بسلوكها خيث تبعها الآخرون .. ولم يؤكد المخرج كثيراً أنانيتها في هذا المشهد، ولو أنها لم تحمل طفليها معها عند النزول .. وكان يمكن له ذلك لو أراد تأكيد سلوك الهرب منفرداً عند الزوجة، وفضل المخرج تمرير المشهد بتلقائية مقبولة .. ويبدو أنه لا يريد إثارة الموضوع على أنه اختلاف جوهري في طبيعة الأب أو الأم كما تقول بعض النظريات، أن الأم أكثر جماية لأبنائها من الأب .. وقد لامس الفيلم هذه النظرية ولكنه لم يؤكدها أبداً.
2- يطرح الفيلم قضية أخلاقية مرتبطة بالقيم والتربية والأفكار الشائعة .. وهي التضحية والفداء مقابل الحفاظ على الذات .. وهي قضية أخلاقية وفلسفية بالدرجة الأولى .. ومن المفيد طرح قيم واقعية وعملية وقابلة للتطبيق .. بدلاً عن القيم المثالية والإنسان الكامل أو السوبر مان .. وهذا شائع في السينما الأمريكية وعند كثير من الشعوب. وقد طرح الفيلم نماذج بشرية جميلة وواقعية متنوعة .. وعبر عن تفاعلاتها النفسية وصراعاتها الأخلاقية بشكل مقبول وواقعي .. ولعل المشكلة الأخلاقية الكبرى هي الخوف من الموت الذي يحيط بالإنسان والذي يعاني منه الجميع .. وفي ذلك دعوة للحياة ومواجهة واقعية للموت .. يحملها الفرد أينما كان.
3- يؤكد الفيلم على مفهوم الأسرة والإخلاص لها .. من خلال نماذج مختلفة عن العلاقات بين الرجل والمرأة.. وفي الفيلم إشارة إلى العلاقات العابرة، وإلى الخيانة الزوجية، وغيرها .. ولكنه أصر على التأكيد على الأسرة وصور مشكلاتها وحلولها بطريقة جذابة وناجحة.
4- بعد مشاهدة الفيلم .. وبعد أن أثار المخرج موضوعات حساسة جداً ترتبط بالأنانية والحماية والأبوة والأمومة والخلافات الزوجية وقلق الموت .. انتهى الفيلم بدعوة تسامحية وتهدئة للضمير المتألم .. ولكنه أصر على أهمية السير في طريق الحياة، وعلى درجة من القلق والتناقض الضروريان تجاه الحياة وتجاه الآخر وتجاه الأسرة .. وفي ذلك شيء من الكوميديا السوداء الساخرة .. وقد عبر عن ذلك في النهاية حين جعل تهدئة هذا القلق من خلال حوار متناقض وغير منطقي مع الآخر الذي يسير إلى جانبه .. ومن خلال تدخينه لسيكارة مع أنه لا يدخن.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق