بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 25 مايو 2018

هل كان "المتنبي" يعاني من اضطراب المزاج ثنائي القطب؟


هل كان "المتنبي" يعاني من اضطراب  المزاج ثنائي القطب؟
د. حسان المالح
استشاري في الطب النفسي - أستاذ في الجامعة العربية الدولية - دمشق 2322841 
الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي (أحمد بن الحسين ، أبو الطيب الجعفي الكوفي) ولد في الكوفة (العراق) وتنقل بين بلاد الشام ومصر وفارس ومات في العراق (915- 965 ميلادية). وهو شاعر عباسي عاش في فترة نهاية الدولة العباسية وتفككها، وهو من أشهر شعراء العرب. وكتب عن شعره وشخصيته الكثير. وهو يوصف بأنه "ملأ الدنيا وشغل الناس" تقديراً لشعره وعظمته وعبقريته (1).
ومن النواحي النفسية كتب عنه أنه كان يعاني من "جنون العظمة" من خلال سلوكه وشعره وإدعاءاته، أو أنه كان يعاني من "نوبات اكتئابية"  واضحة كما في قصيدته الشهيرة "الحمى" .. وقد ظن معظم الدارسين أنه يقصد الحمى المعروفة بارتفاع الحرارة ولكن عميد الأدب العربي المعاصر طه حسين أكد أنه لم تكن هناك حمى بل كانت القصيدة وصفاً دقيقاً لحالة اكتئابية (2).
وتتضمن سيرة الشاعر وسلوكه .. تنقلات وأسفار متعددة، صراعات مع الخلفاء والأمراء والشعراء، طموحات  نحو المجد والعلا والمناصب (طموحات مادية ومعنوية)، غزارة إنتاجه الشعري (326 قصيدة) وتنوع موضوعاته (مديح ورثاء وفخر وهجاء وغزل وحكمة).
وقد مدح نفسه وعظم قدراته، واشتهر ببلاغته وهجائه وحكمته ونظرته العميقة للإنسان والحياة. وأخيراً كان لديه مغامراته وأسفاره وركوبه مخاطر متعددة .. والتي انتهت بمقتله مع ابنه وغلامه في عمر خمسين عاماً.
وقد تضاربت الآراء حول لقبه "المتنبئ" وقد خفف اللفظ إلى المتنبي .. ومنها أنه ادعى النبوة وقاد فرقة قرمطية وحبس سنتين حتى استتاب.
ومنها تعاليه وتعاظمه في شعره مثل قوله: أنا في أمة تداركها الله .. غريب كصالح في ثمود،
أو قوله: ما مقامي في أرض نخلة .. إلا كمقام المسيح بين اليهود (3).
ومن النواحي النفسية العيادية يعتبر المتنبي شخصية مبدعة أنتجت شعراً بليغاً متميزاً ومتفوقاً، وترافقت سيرة حياته مع نجاحات باهرة وإحباطات مريرة واندفاعات متهورة متعددة.
وعلى الأرجح يبدو أنه تعرض لنوبات أكتئابية (2) .. ولكن هذه النوبات (كما في قصيدة الحمى) تضمنت عدة أعراض هامة مثل طلاقة التعبير وتسارع الأفكار وتشتتها (مشاعر وأفكار اكتئابية + كلام زائد + انتقال وقفز من فكرة إلى أخرى) وهي أعراض تدل (وفقاً لمعايير الطب النفسي الحديثة) على اضطراب المزاج ثنائي القطب وليس على الاكتئاب وحيد القطب أو غيره.
يضاف إلى ما سبق فإن لديه مجموعة من السلوكيات والأعراض في فترات زمنية أخرى، والتي تدل على ارتفاع المزاج وازدياده (الهوس – الزهو)، وارتفاع المزاج هذا يمكن أن يترافق مع أفكار أوهذيانات العظمة بدرجات متفاوتة في شدتها أو في استمراريتها (أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي .. وأسمعت كلماتي من به صمم).
وترجيح تشخيص اضطراب المزاج ثنائي القطب لدى المتنبي لا ينقص من قدره شيئاً .. وكثير من عظماء التاريخ الماضي والحاضر في مختلف المجالات ربما كانوا يعانون من هذا الاضطراب (راجع مقالتي شخصيات عالمية شهيرة لديها اضطراب المزاج ثنائي القطب) (4).
ومن الملاحظ أن عدداً من المشاهير يفضلون أن يقال عنهم أنهم مروا بحالة اكتئابية لأن الاكتئاب أقل ارتباطاً بالوصمة الاجتماعية السلبية .. وتشارك وسائل الإعلام المختلفة في هذا الخلط وكذلك العامة .. وأما من النواحي الطبية والعلمية فإن هناك اختلافات عديدة بين الاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب من ناحية الأعراض والسيرة الحياتية والعلاج، ومن الضروري التمييز بينهما بالنسبة للعامة وللاختصاصيين أيضاً.
ولا بد من تعديل النظرات الاجتماعية السلبية حول جميع الاضطرابات النفسية بما فيها اضطراب المزاج ثنائي القطب في مجتمعاتنا العربية .. حيث تحاط الأمور النفسية بكثير من السرية والإخفاء وأيضاً بالإهمال والتجاهل.
وبالطبع فإن هذا الاضطراب يمكن أن يصيب مختلف الشرائح الاجتماعية .. وله درجاته الخفيفة أو المتوسطة أو الشديدة .. وهو يصيب المشاهير أيضاً في مختلف مجالات الشهرة .. كما أنه يرتبط بالعملية الإبداعية عموماً.
والتعرف على هؤلاء المشاهير وأنهم كانوا يعانون من هذا الاضطراب من الممكن له أن يساهم في تعديل النظرات السلبية الشائعة في المجتمع حول الاضطرابات النفسية.
ومن ناحية أخرى يفيد ذلك في فهم العمليات اﻻبداعية وتطبيقاتها المتنوعة العملية والتربوية والأكاديمية.
كما يساهم ذلك أيضاً في زيادة الوعي النفسي العام في المجتمع مما يؤدي إلى التعرف على اﻻضطراب النفسي مبكراً وعلاجه والتخفيف من آثاره السلبية، مما يساهم في تقدم وتطور المجتمع وصحته النفسية.
دمشق 25/5/2018
المراجع:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق