بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 22 يوليو 2018

الفنان لؤي كيالي إبداع كبير .. ومعاناة مع اضطراب المزاج ثنائي القطب:

                          الفنان لؤي كيالي إبداع كبير .. ومعاناة مع اضطراب المزاج ثنائي القطب:
د. حسان المالح
مقدمة:
يعتبر الفنان السوري الشهير لؤي كيالي من كبار فناني الفن التشكيلي السوري ومبدعيه في العصر الحديث (1934- 1978). وهو من مواليد حلب من أسرة عريقة، بدأ الرسم مبكراً قبل بلوغه عشر سنوات، وأقام أول معرض شخصي في قاعة الثانوية الأولى في حلب عام 1952. تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة في روما - إيطاليا عام 1961، ثم عمل في التدريس في مدارس حلب ودمشق ثم في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق.

                                   
                                                                    الفنان بريشته 1961
سيرته الفنية وأعماله:
اشتهرت لوحاته برسم الوجوه (البورتريه) وتضمنت سيدات بمواضيع مختلفة، وماسحي الأحذية، وبائعي الجرائد، وبائعي اليانصيب، والسيد المسيح، وقوارب، ومرممي شباك الصيد، ومعلولا, والبحر وجزيرة أرواد، ولوحات معرضه "في سبيل القضية" عام 1967 "وهو عبارة عن 30 لوحة مرسومة بالفحم تلخص المعاناة الفلسطينية، وقد جاب بهذه اللوحات محافظات سورية كلها، وشاءت الأقدار أن تشتعل حرب حزيران والمعرض لا يزال قائماً، ما أثر في نفسيته فمزق اللوحات كلها". إضافة إلى لوحات أخرى عديدة بيعت بمبالغ كبيرة.
 
                                                        ماذا بعد؟ 1965 
                                                                                         السيد المسيح ويهوذا 1974

                                                                                              الطفل النائم 1972    

                                                                                            ماسح الأحذية-2 1963        

                                                                                                بائع الكعك 1965
   
                                                                                             من وحي أرواد-2 1976                    

                                                                                                   قوارب-6 1976
ووفقاً للناقد صلاح الدين محمد إن الفترة من 1973 إلى 1976 هي الفترة الذهبية في حياة كيالي، إذ رسم فيها كثيراً من لوحاته الهامة، واهتم بالمشاهد الجميلة، والزهور، والطبيعة، واهتم بالتفاصيل والألوان.
رحلته الحياتية كانت قصيرة، ولكن حياته الفنية كانت مليئة بالزخم والعطاء، وقد كتب عنه ثلاثة كتب على الأقل للفنان ممدوح قشلان والناقد صلاح الدين محمد والناقد طارق الشريف، ومئات المقالات وعدد من الندوات .. وما زال الحديث عنه يغري بالاستزادة والتفهم والتقدير.
وقد رسم بين 1973- 1978 أشهر لوحاته التي نعرف منها (13) لوحة في المتحف الوطني بدمشق. ‏
ووصف بأنه شخص وسيم أنيق ابن طبقة ثرية رقيق المشاعر مع شيء من نزق ومزاجية لا تخلو من طرافة
. ويذكر صديقه الفنان سعد يكن عن إعجابه الشديد بفان كوخ  والسيد المسيح.
وفي أعماله عناية بالغة في نظافة اللوحة كلون، وفي التدقيق على الخط وكثافته، وأيضاً جمالية الحزن. الحزن الغامض والهادئ الذي يسري في عروق اللوحة خطاً ولوناً، مساحةً وتعبيراً، مسحة تغرينا باستحضار شخوص الفنان الإيطالي موديلياني في سكونها المثير للحيرة تألماً وتأملاً.
ومن الواضح أن الخط يشكل الحضور الأبرز في تقنياته، والأكثر فاعلية وتأثيراً على المستوى التعبيري، فجسد شخوصه يتدلى من أعماق ذاته المرهفة بحزن دفين وقديم، يتلوى في ثناياها راسماً على مسامات لوحاته معالم ذلك الحزن، وذلك الانعزال والوحدة، الأمر الذي ينسحب حتى على اللوحات التي تضم أكثر من شخص، فالحزن لا يتجلى إلا بالوحدة والانعزال والانزواء والتقوقع والسكون، على عكس الفرح الذي يتطلب الجموع والمشاركة.
إن الخط الذي يغرسه كيالي عميقاً في لوحاته، يحفره حفراً على سطح الخشب والقماش، ولا يرسمه رسماً، يحاول من خلاله بث ذلك الحزن المحير في نفوسنا، والذي يغريه بالتسلل فيها، هادئاً رقيقاً وعذباً. وفي نفس الوقت يتسرب ذلك الخط في المساحات اللونية الهادئة والحالمة، ويتماهى معها بحزن، دون بكاء أو نحيب.
وفي شرح المضمون الإنساني الذي تزخر بها لوحات الفنان فإن معظمها يعالج قضايا الأرض والإنسان .. ونجد أنها كانت تتسم بطابع الصمت والقتامة والتعبير المجلل بالرهبة. وهكذا كان الفنان صادقاً مع ما يعتمل في نفسه من الإحساس بالمآسي الإنسانية بشكل عام، وبواقع وطنه العربي بشكل خاص .. مشكلة الإنسان العربي واحتلال أرضه، والعبث بمقدراته، وانتشار الفاقة، وتبدد الأحلام والآمال، كل هذا مضاف إليه حساسية الفنان وتفاعله مع بيئته بصدق واستيعاب .. مما جعل انفعاله يتبلور إلى طابع مأساوي.
"إنه يهتم بتجسيد الإنسان في مظاهره الأكثر حساسية والأكثر شاعرية في إطار حزين" وفقاً للناقد العالمي الإيطالي فاليريو مارياني.‏
وقد التزم كيالي في فنه الموضوعات الإنسانية والوطنية والقومية .. وعبر عنها بمجموعة كبيرة من اللوحات التي حملت التزاماً صادقاً بالمعذبين والفقراء والمنتجين الصادقين البسطاء الطيبين من شعبه. وقد كرس فنه لا سيما بعد العام 1970 للأمومة، والباعة الجوالين، والصيادين، وماسحي الأحذية، وبائعي ورق اليانصيب، والمعوقين، والعاملين في الحقول، وربات البيوت، والمشردين البؤساء. كما رسم الأزهار والطبيعة الصامتة وبلدة معلولا وكان في أعماله كافة، رقيقاً، صامتاً، هادئاً. قدم موضوعه بلغة فنية واقعية مُبسطة ومختزلة، اعتمد فيها على الرسم كقيمة تشكيلية وتعبيرية رئيسة، وعلى المساحات اللونية الشفافة والبسيطة. ‏
وكتب الناقد السوري طارق الشريف في كتاب عنه عن انتقاله من الواقعية إلى الواقعية الشاعرية، ومرحلة البحث عن أسلوب شخصي، ووصوله إلى الواقعية التعبيرية، ثم إلى الواقعية الجديدة .. (تفاصيل هامة ودقيقة ومرتبة عن أعماله الفنية ولوحاته في موقعه على الانترنت http://www.louay-kayali.com)
حالته النفسية: 
أصيب عام 1966 بمرض نفسي وفقاً لما نشره الأستاذ الأديب فاضل السباعي (وهو زوج أخته وعضو اتحاد الكتاب العرب ويكبره بخمس  سنوات) وأدخل المشفى في دمشق وحلب وبيروت خلال 1968-1970 وتحسنت حالته ثم تعرض للانتكاس. وأحيل للتقاعد من الجامعة عام 1971.
وعادت أيامه الذهبية ونشاطاته عام 1973 وأقام عدة معارض وندوات، ورسم لوحة للمتحف الوطني بدمشق "من وحي أرواد" بحجم كبير 400 x 125 سم عام 1976. وفي عام 1977 رسم لوحته "من الريف" للمتحف الوطني في حلب بحجم كبير 300 x 180 سم.
وتعرض لانتكاسة نفسية عام  1977 وباع بيته في حلب ومايملكه وهاجر إلى إيطاليا، ولكنه عاد إلى حلب في شباط 1978 ، مخيب الرجاء، واعتزل الناس وكان يتناول عقاقير منومة. وفي إيلول 1978 احترق في سريره بسبب سيكارة سقطت من يده ونقل إلى دمشق إلى المشفى العسكري بحرستا وفارق الحياة بعدها بثلاثة أشهر تقريباً (1).
وقد وصفت حالته المرضية مرة بأنها "فصام" " فصام بسيط مع هياج جمودي" وأنه كان يعاني من أفكار اضطهادية وهذيانات، ومرة أخرى بأنه كان يعاني من "مرض النفاس الدوري" وفقاً لطبيبه المعالج في حلب.
ويبدو من خلال سيرته الذاتية المطروحة وماكتب عنه من تفاصيل وسلوكيات، والمراحل التي قدمها في فنه، أنه كان يمر بنوبات مرضية وفيها أعراض اكتئابية وذهانية ثم تتحسن حالته، ويعاود نشاطه وحيويته وإنتاجه في فترات أخرى. وربما يرجح ذلك تشخيص اضطراب المزاج ثنائي القطب حيث تحدث فيه نوبات اكتئابية ونوبات أخرى فيها نشاط وحيوية وأيضاً تحدث نوبات مختلطة بينهما.
ولا بد من الإشارة إلى أن مصطلحات الطب النفسي في سورية في تلك الفترة الزمنية كانت ملتبسة وقديمة .. مثل مصطلح مرض النفاس الدوري .. ولكن هذا المصطلح يشير بوضوح إلى اضطراب نفسي دوري وفيه نوبات، وهو يقترب كثيراً من مصطلح اضطراب المزاج ثنائي القطب الحديث.
وهذا الاضطراب له أنواع وله درجات خفيفة أو متوسطة أو شديدة. ويمكن أن يلتبس تشخيصه مع الفصام أو الاكتئاب.
ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الاضطراب قد عانى منه عدد كبير من الشخصيات المبدعة والشهيرة على المستوى العالمي ومنهم الفنان الهولندي فنسنت فان كوخ وفقاً للدراسات النفسية الحديثة (2)(3).
ويصعب الحديث عن المصابين بالاضطرابات النفسية في العالم العربي عادة ولاسيما في حال الشخصيات الشهيرة لأسباب عديدة تتعلق بالتخلف والجهل والتقاليد والسمعة وغيرها. وفي بلادنا تندر المعلومات والقصص المعروفة المؤكدة عن الإصابة باضطراب نفسي معين عند المشاهير. وفي حالة الفنان الراحل لؤي كيالي استثناء فريد لهذه القاعدة العامة، حيث تم الحديث عن مرضه وحالته النفسية في كتابات عديدة من أهله وأصدقائه. وربما يعود ذلك إلى وعي أهله وأصدقائه وثقافتهم العالية وتفكيرهم الواقعي. وهذا الاستثناء المتميز والهام يستحق الاهتمام والبحث والتقدير من قبل الاختصاصيين والمهتمين بالعلوم النفسية.
وببساطة يمكننا القول أن الفنان المبدع معرض للإصابة بمختلف الأمراض الجسمية والنفسية، مثله في ذلك مثل جميع الأشخاص. وربما يعاني الفنانون والمبدعون بنسبة أكبر من الفئات الأخرى في المجتمع من حالات الاكتئاب، واضطراب المزاج ثنائي القطب، وسوء استعمال الكحول، وغير ذلك، وفقاً لبعض الدراسات الغربية عن الشعراء والفنانين التشكيليين وغيرهم في المهن الإبداعية (4).
ويطرح ذلك ضرورة الاهتمام بهؤلاء المبدعين من النواحي النفسية وتقديم التشخيص المناسب  والعلاج المناسب في الوقت المناسب.
ولا بد من تحسين وتطوير الخدمات النفسية في مجتمعاتنا، وأيضاً تحسين وتطوير الوعي الصحي النفسي العام.
ولابد من التعامل مع الواقع والحقيقة دون تزييف أو مواربة .. ودون إعطاء التبريرات والتفسيرات الخيالية أو الرومانسية للاضطراب النفسي الذي يظهر عند المبدع، لأن الاضطراب النفسي ليس تهمة تحتاج إلى الرد عليها وتفنيدها.
وأخيراً .. يحتاج الاضطراب النفسي إلى التشخيص والعلاج والرعاية، وليس إلى الإهمال والتغطية وسوء التفسير، وكل ذلك يساهم في صحة نفسية أفضل، وفي تحسين أحوال المريض، ويخفف من الخسائر والآثار السلبية الناتجة عن الاضطراب النفسي.
المراجع:
(3)     فان كوغ: حياته وفنه واضطرابه النفسي، د. حسان المالح, مجلة حياتنا التشكيلية، دمشق – سورية، وزارة الثقافة، صيف 2016.
(4)   المهنة والاضطراب النفسي، د. حسان المالح، مجلة الثقافة النفسية المتخصصة، العدد 68 / تشرين الأول 2006.

هناك تعليقان (2):

  1. انسان مميز باحساس عال جدا ...لم تساعده الظروف ليكمل طريقه الفني .
    ترك لنا لوحات مميزة ... اثرى بها الفن التشكيلي في سوريا .

    ردحذف