الانتحار .. أو العلاج ومواجهة الأزمات؟
الدكتور حسان المالح - استشاري الطب النفسي - دمشق -أستاذ في الجامعة العربية الدولية - 2322841
مقدمة عامة:
قتل النفس أو الانتحار هو سلوك إنساني معروف عبر التاريخ ..ويشترك الإنسان وبعض الكائنات الحية الأخرى في هذا السلوك .. ومثلاً تقدم العقرب على قتل نفسها بنفسها بواسطة اللدغ عندما تجد أنها محاصرة بدائرة من النار ولاتستطيع الخروج من هذه الدائرة .. وبذلك فهي تختار أن تنهي حياتها بنفسها بدلاً من أن تموت احتراقاً ..
ويبدو أن سلوك العقرب هذا السلوك الغريب له مايبرره ..!! وربما يعكس إحساساً فطرياً وغريزياً بأن الموت قد أصبح قريباً جداً بسبب اقتراب النار الملتهبة منها وعندها تفضل أن تقتل نفسها بنفسها محافظة على تفوقها وقوتها وكرامتها !!! ، وبواسطة السلاح الذي تستعمله لقتل الأعداء وهو نفس السلاح الذي يحميها ويضمن لها بقاءها واستمرار حياتها وكفاحها فيها ..
والحالات المشابهة عند بني البشر ليست كثيرة .. ولكنها موجودة ولاسيما في حالات مثل الحروب والوقوع في الأسر ونفاذ ذخيرة المقاتل وغيرها .. وهي لاتمثل إلا جزءاً قليلاً من حالات الانتحار عند بني البشر.
ويمكننا أن نستنتج أن الشعور بالكرامة الشخصية والقوة له أهمية كبيرة في إثارة فكرة الانتحار . ومن ناحية أخرى فإن استحالة النجاة وإمكانية العيش واستمراره التي يراها الإنسان أمامه من منظاره ، تجعل فكرة الانتحار قريبة وممكنة.
ولابد من الإشارة إلى أن إقدام الإنسان على إنهاء حياته بإرادته له أبعاد فلسفية وفكرية..وفكرة الموت وانتهاء الحياة فكرة مخيفة بذاتها .. وقد أثارت خيال الإنسان وتفكيره ومشاعره منذ القدم .. ومعظم الفلسفات والأديان تحاول مواجهة هذه الفكرة المخيفة بطرق متعددة وهي تعلي قيمة الحياة وأهمية المحافظة عليها ..وقد طرح بعض المفكرين فكرة غريزة الحياة مقابل غريزة الموت..وأن الكائن الحي يسير نحو الموت بشكل غريزي ولايمكن توقيف ذلك أو تعديله .. وبعضهم يرى أن اختيار الموت الإرادي هو سمو وتفوق وتغلب على الضعف البشري..وعند بعض قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية تنتشر فكرة التحكم بالموت بشكل إرادي حيث يمتنع الفرد عن الطعام والشراب ويجلس في مكان خاص كي يموت..كما نجد من يطرح فكرة "القتل الرحيم " في عصرنا الحالي في الحالات الطبية المرضية الميؤوس من علاجها ..
كيف نفهم الانتحار من النواحي النفسية الاجتماعية ؟
القاعدة العامة أن الجروح المعنوية العميقة والشديدة التي يتعرض لها الإنسان يمكن لها أن تدفعه للتفكير في إنهاء حياته بنفسه محافظاً بذلك على درجة من كرامته وقوته. ومن ناحية أخرى فإن رؤيته المغلقة والمسدودة واليائسة للواقع وللأحداث وللظروف التي يمر بها تجعل فكرة الانتحار بديلاً مقبولاً عن واقعه وظرفه المستحيل الذي يمر به.
وكلما كانت الظروف الاجتماعية والصدمات التي يعيشها الإنسان ويتعرض لها سيئة ولامخرج منها كلما هيأ ذلك لفكرة الانتحار .. ويدل ذلك على أن الانتحار له ارتباط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والصدمات الحياتية .. مما يطرح أهمية الجهود التي تسعى إلى العمل على تحسين هذه الظروف وتعديلها وتغييرها، وهنا لابد من الأخذ في الاعتبار أن تقدير الظروف الاجتماعية أو الحياتية الصعبة أو المستحيلة التي لاتتناسب مع استمرار الحياة لفرد بعينه أو جماعة من الناس ، هو أمر نسبي وليس مطلقاً، وأن التحديث والتطوير وتحسين الظروف المعيشية المختلفة هو شعار إيجابي مفيد عموماً ويجب المضي فيه باستمرار.
ومن جهة ثانية تبرز أهمية موضوع تقبل هذه الظروف والصدمات والرضى بها والتكيف معها دون الوصول إلى مرحلة اليأس الكامل .. وذلك من خلال بعث أفكار الأمل والتفاؤل والقسمة والنصيب والقدر الذي يجب الرضى به من خلال الأفكار الدينية المتنوعة والحكم والأقوال المأثورة وغيرها من النصائح . وبالطبع لابد دائماً من البحث عن إمكانية إيجاد المخارج والحلول المتنوعة للمآزق المختلفة وفقاً لمبدأ "إعقلها وتوكل ".
ومما لاشك فيه أن الحياة البشرية لاتستمر مع انعدام الأمل .. ولابد من بعث الأمل دائماً في مختلف المجالات وبشتى الطرق .. ولولا الأمل لما سقطت النملة ثمانين مرة في طلب حبة شعير !!!
وبشكل عملي تختلف رؤية الأشخاص وتقديراتهم لظروفهم الحياتية التي تواجههم .. وبعضهم أكثر تكيفاً واحتمالاً للشدائد والصعاب وبعضهم لايتحمل درجات منخفضة من الإحباط والصعوبات .. وتلعب التربية والظروف الأسرية وتاريخ الفرد وتكوينه الشخصي النفسي والجسمي والوراثي دوراً هاماً في تحديد قدراته على التكيف والتحمل وإيجاد المخارج والحلول لمختلف الصعوبات الحياتية .
ولاشك في أن الدلال المفرط وتلبية الرغبات دائماً يجعل الفرد ضعيفاً أمام الإحباطات والأزمات .. كما أن الفردية والأنانية والنرجسية والتنافس الشديد مع الآخرين يلعب دوراً هاماً في تضخيم الإحباطات والأزمات .
وكذلك الاستغراق في التفكير المادي بعيداً عن الروحي ، وعدم النضج الانفعالي ، والفكري .. كل ذلك يجعل الفرد ضعيفاً أمام الأزمات والإحباطات.
الانتحار من النواحي النفسية العملية:
تدل الدراسات والإحصائيات على أن الانتحار لايزال أقل انتشاراً في العالم العربي والإسلامي مقارنة مع الدول المتقدمة .. ولكن الانتحار موجود في مجتمعاتنا وكثيراً مايتم الهروب من تسميته كسبب للوفاة لأسباب اجتماعية وأخلاقية وقانونية.. وهناك الانتحار الصريح الواضح المؤكد والذي تدل التقارير الصحفية وبعض الإحصائيات على ازدياده ، وهناك الانتحار الغامض وغير المباشر ، ومن ذلك الحوادث المتنوعة ( السقوط من أعلى ، الحريق ، التسممات وغيرها ) التي تؤدي إلى الوفاة أو الإصابات الجسمية المتنوعة ، وأيضاً حوادث السيارات وقيادتها المتهورة والتي تعتبر شكلاً من أشكال العنف والأذى تجاه الغير وتجاه الذات أيضاً ..وهي نوع من قتل الآخر وقتل الذات، و تؤدي إلى الموت أو إلى عاهات وشلل وإصابات.
ومن النواحي النفسية العملية أيضاً ، يمكن للضغوط النفسية المتنوعة والإحباطات والصدمات أن تؤدي إلى انفعالات سلبية شديدة وحزن وتوتر ويأس وغضب ، ويمكن للغضب والعنف أن يرتد إلى الذات بدلاً عن المحيط والآخرين وأن تبرز الأفكار الانتحارية ثم تتحول إلى سلوك انتحاري .
والمعروف أن الإحباط والضغوط والانفعالات السلبية تحتاج إلى تفريغ وهضم ودعم معنوي مؤقت أو مستمر ، مما يطرح أهمية الإنصات للآخر ولمشكلاته وانفعالاته عند مختلف الأشخاص وفي مختلف الفئات العمرية بما فيهم الأطفال والمراهقين ، وذلك من قبل الأهل والمعارف والأصدقاء والخبراء والاختصاصيين .
ويبدو أن تضيق الوعي والفكر والنظر يسبق محاولات الانتحار حيث نجد أن الفرد لم يعد يرى أمامه إلا الموت وقتل نفسه .. ويتضيق مجال رؤيته وتفكيره ويصبح محدوداً وناقصاً غير منتبه لتفاصيل كثيرة واحتمالات أخرى ممكنة .. وهذا الضيق في النظر والتفكير والانفعال يمكن تعديله بشكل إيجابي في عدد من الحالات .. من خلال الحوار ومن خلال فتح إمكانيات أخرى للعمل والفعل غير قتل النفس.
وهناك نوع من محاولات الانتحار أو إيذاء النفس يهدف أصلاً إلى لفت الانتباه والحصول على مكاسب فورية .. وبعضهم يموتون ولو أنهم غير راغبين بذلك عن طريق الخطأ .. حيث يظن بعضهم أن وسيلة إيذاء معينة لن تميتهم ويكون ظنهم غير صحيح .
وفي هذه الحالات لابد من التعرف على التفاصيل بشكل دقيق لاستبعاد النية الحقيقية في قتل النفس ويحتاج ذلك لخبراء الصحة النفسية في كثير من الحالات كما يحتاج للمراقبة والمتابعة.
ولابد من التأكيد في هذه الحالات على ضرورة أن لايثاب الفاعل على سلوكه الخاطئ وأن لايحصل على الامتيازات والمكاسب التي يهدد بأذى نفسه من أجلها .. لأن الخضوع لإبتزازه وتهديداته يساعده على تكرار سلوكه الخاطئ وتثبته . ولابد من التعامل الحذر والدقيق مع هذه الحالات عموماً.
وفي الحالات المرضية الشديدة مثل الاكتئاب الأساسي أو الذهاني أو اضطراب المزاج أو مرض الفصام أو حالات الإدمان المتنوعة لابد من التشخيص الصحيح والعلاج المناسب والمتابعة . وأيضاً في الحالات التي لديها قصة عائلية في الانتحار ، لأن المخاطر تكون أكبر.
ويبقى مرض الاكتئاب المسبب الأساسي للانتحار من خلال سيطرة المزاج الاكتئابي والأفكار السوداوية اليائسة وأيضاً الأفكار الانتحارية التي تراود المريض باستمرار وتدفعه لأن ينهي حياته بسبب الآلام النفسية التي لاتطاق . وبعضهم يتخذ قراره بالانتحار بشكل مسبق ويهيئ نفسه وأموره ويكتب رسالة توضيحية لسلوكه . وبعضهم الآخر يتحدث إلى من حوله من الأهل أو الأصدقاء أو الأطباء حول نيته في إنهاء حياته .. وكل ذلك يستدعي التنبه والتصرف المناسب والعمل على علاج المريض ومراقبته وحمايته إلى أن تتحسن حالته.
وعموماً فإن الشخصيات المزاجية والاندفاعية والعنيفة والمضطربة مهيأة أكثر للسلوك الانتحاري وهي تتصرف عادة وفقاً للحظة دون تقدير وتمحيص للعواقب وتتحكم بسلوكها الانفعالات الشديدة دون التبصر والتأني .
ملاحظات أخيرة:
لابد من التأكيد على أهمية علاج الاكتئاب بمختلف أشكاله ، وكذلك الاضطرابات النفسية الأخرى .. وكل ذلك منتشر في مجتمعاتنا . ولابد من التأكيد على أهمية الصحة النفسية والعلاج النفسي وترسيخ قواعدها ومؤسساتها المناسبة بشكل فعال في المجتمع ، كما لابد من التأكيد على أهمية الوعي النفسي والتربوي والإعلامي الذي يعلي قيم التعامل مع المشكلات ومواجهتها والسير في طرق حلها لدى جيل الشباب والمراهقين خاصة والمجتمع عامة.
الدكتور حسان المالح - استشاري الطب النفسي - دمشق -أستاذ في الجامعة العربية الدولية - 2322841
مقدمة عامة:
قتل النفس أو الانتحار هو سلوك إنساني معروف عبر التاريخ ..ويشترك الإنسان وبعض الكائنات الحية الأخرى في هذا السلوك .. ومثلاً تقدم العقرب على قتل نفسها بنفسها بواسطة اللدغ عندما تجد أنها محاصرة بدائرة من النار ولاتستطيع الخروج من هذه الدائرة .. وبذلك فهي تختار أن تنهي حياتها بنفسها بدلاً من أن تموت احتراقاً ..
ويبدو أن سلوك العقرب هذا السلوك الغريب له مايبرره ..!! وربما يعكس إحساساً فطرياً وغريزياً بأن الموت قد أصبح قريباً جداً بسبب اقتراب النار الملتهبة منها وعندها تفضل أن تقتل نفسها بنفسها محافظة على تفوقها وقوتها وكرامتها !!! ، وبواسطة السلاح الذي تستعمله لقتل الأعداء وهو نفس السلاح الذي يحميها ويضمن لها بقاءها واستمرار حياتها وكفاحها فيها ..
والحالات المشابهة عند بني البشر ليست كثيرة .. ولكنها موجودة ولاسيما في حالات مثل الحروب والوقوع في الأسر ونفاذ ذخيرة المقاتل وغيرها .. وهي لاتمثل إلا جزءاً قليلاً من حالات الانتحار عند بني البشر.
ويمكننا أن نستنتج أن الشعور بالكرامة الشخصية والقوة له أهمية كبيرة في إثارة فكرة الانتحار . ومن ناحية أخرى فإن استحالة النجاة وإمكانية العيش واستمراره التي يراها الإنسان أمامه من منظاره ، تجعل فكرة الانتحار قريبة وممكنة.
ولابد من الإشارة إلى أن إقدام الإنسان على إنهاء حياته بإرادته له أبعاد فلسفية وفكرية..وفكرة الموت وانتهاء الحياة فكرة مخيفة بذاتها .. وقد أثارت خيال الإنسان وتفكيره ومشاعره منذ القدم .. ومعظم الفلسفات والأديان تحاول مواجهة هذه الفكرة المخيفة بطرق متعددة وهي تعلي قيمة الحياة وأهمية المحافظة عليها ..وقد طرح بعض المفكرين فكرة غريزة الحياة مقابل غريزة الموت..وأن الكائن الحي يسير نحو الموت بشكل غريزي ولايمكن توقيف ذلك أو تعديله .. وبعضهم يرى أن اختيار الموت الإرادي هو سمو وتفوق وتغلب على الضعف البشري..وعند بعض قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية تنتشر فكرة التحكم بالموت بشكل إرادي حيث يمتنع الفرد عن الطعام والشراب ويجلس في مكان خاص كي يموت..كما نجد من يطرح فكرة "القتل الرحيم " في عصرنا الحالي في الحالات الطبية المرضية الميؤوس من علاجها ..
كيف نفهم الانتحار من النواحي النفسية الاجتماعية ؟
القاعدة العامة أن الجروح المعنوية العميقة والشديدة التي يتعرض لها الإنسان يمكن لها أن تدفعه للتفكير في إنهاء حياته بنفسه محافظاً بذلك على درجة من كرامته وقوته. ومن ناحية أخرى فإن رؤيته المغلقة والمسدودة واليائسة للواقع وللأحداث وللظروف التي يمر بها تجعل فكرة الانتحار بديلاً مقبولاً عن واقعه وظرفه المستحيل الذي يمر به.
وكلما كانت الظروف الاجتماعية والصدمات التي يعيشها الإنسان ويتعرض لها سيئة ولامخرج منها كلما هيأ ذلك لفكرة الانتحار .. ويدل ذلك على أن الانتحار له ارتباط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والصدمات الحياتية .. مما يطرح أهمية الجهود التي تسعى إلى العمل على تحسين هذه الظروف وتعديلها وتغييرها، وهنا لابد من الأخذ في الاعتبار أن تقدير الظروف الاجتماعية أو الحياتية الصعبة أو المستحيلة التي لاتتناسب مع استمرار الحياة لفرد بعينه أو جماعة من الناس ، هو أمر نسبي وليس مطلقاً، وأن التحديث والتطوير وتحسين الظروف المعيشية المختلفة هو شعار إيجابي مفيد عموماً ويجب المضي فيه باستمرار.
ومن جهة ثانية تبرز أهمية موضوع تقبل هذه الظروف والصدمات والرضى بها والتكيف معها دون الوصول إلى مرحلة اليأس الكامل .. وذلك من خلال بعث أفكار الأمل والتفاؤل والقسمة والنصيب والقدر الذي يجب الرضى به من خلال الأفكار الدينية المتنوعة والحكم والأقوال المأثورة وغيرها من النصائح . وبالطبع لابد دائماً من البحث عن إمكانية إيجاد المخارج والحلول المتنوعة للمآزق المختلفة وفقاً لمبدأ "إعقلها وتوكل ".
ومما لاشك فيه أن الحياة البشرية لاتستمر مع انعدام الأمل .. ولابد من بعث الأمل دائماً في مختلف المجالات وبشتى الطرق .. ولولا الأمل لما سقطت النملة ثمانين مرة في طلب حبة شعير !!!
وبشكل عملي تختلف رؤية الأشخاص وتقديراتهم لظروفهم الحياتية التي تواجههم .. وبعضهم أكثر تكيفاً واحتمالاً للشدائد والصعاب وبعضهم لايتحمل درجات منخفضة من الإحباط والصعوبات .. وتلعب التربية والظروف الأسرية وتاريخ الفرد وتكوينه الشخصي النفسي والجسمي والوراثي دوراً هاماً في تحديد قدراته على التكيف والتحمل وإيجاد المخارج والحلول لمختلف الصعوبات الحياتية .
ولاشك في أن الدلال المفرط وتلبية الرغبات دائماً يجعل الفرد ضعيفاً أمام الإحباطات والأزمات .. كما أن الفردية والأنانية والنرجسية والتنافس الشديد مع الآخرين يلعب دوراً هاماً في تضخيم الإحباطات والأزمات .
وكذلك الاستغراق في التفكير المادي بعيداً عن الروحي ، وعدم النضج الانفعالي ، والفكري .. كل ذلك يجعل الفرد ضعيفاً أمام الأزمات والإحباطات.
الانتحار من النواحي النفسية العملية:
تدل الدراسات والإحصائيات على أن الانتحار لايزال أقل انتشاراً في العالم العربي والإسلامي مقارنة مع الدول المتقدمة .. ولكن الانتحار موجود في مجتمعاتنا وكثيراً مايتم الهروب من تسميته كسبب للوفاة لأسباب اجتماعية وأخلاقية وقانونية.. وهناك الانتحار الصريح الواضح المؤكد والذي تدل التقارير الصحفية وبعض الإحصائيات على ازدياده ، وهناك الانتحار الغامض وغير المباشر ، ومن ذلك الحوادث المتنوعة ( السقوط من أعلى ، الحريق ، التسممات وغيرها ) التي تؤدي إلى الوفاة أو الإصابات الجسمية المتنوعة ، وأيضاً حوادث السيارات وقيادتها المتهورة والتي تعتبر شكلاً من أشكال العنف والأذى تجاه الغير وتجاه الذات أيضاً ..وهي نوع من قتل الآخر وقتل الذات، و تؤدي إلى الموت أو إلى عاهات وشلل وإصابات.
ومن النواحي النفسية العملية أيضاً ، يمكن للضغوط النفسية المتنوعة والإحباطات والصدمات أن تؤدي إلى انفعالات سلبية شديدة وحزن وتوتر ويأس وغضب ، ويمكن للغضب والعنف أن يرتد إلى الذات بدلاً عن المحيط والآخرين وأن تبرز الأفكار الانتحارية ثم تتحول إلى سلوك انتحاري .
والمعروف أن الإحباط والضغوط والانفعالات السلبية تحتاج إلى تفريغ وهضم ودعم معنوي مؤقت أو مستمر ، مما يطرح أهمية الإنصات للآخر ولمشكلاته وانفعالاته عند مختلف الأشخاص وفي مختلف الفئات العمرية بما فيهم الأطفال والمراهقين ، وذلك من قبل الأهل والمعارف والأصدقاء والخبراء والاختصاصيين .
ويبدو أن تضيق الوعي والفكر والنظر يسبق محاولات الانتحار حيث نجد أن الفرد لم يعد يرى أمامه إلا الموت وقتل نفسه .. ويتضيق مجال رؤيته وتفكيره ويصبح محدوداً وناقصاً غير منتبه لتفاصيل كثيرة واحتمالات أخرى ممكنة .. وهذا الضيق في النظر والتفكير والانفعال يمكن تعديله بشكل إيجابي في عدد من الحالات .. من خلال الحوار ومن خلال فتح إمكانيات أخرى للعمل والفعل غير قتل النفس.
وهناك نوع من محاولات الانتحار أو إيذاء النفس يهدف أصلاً إلى لفت الانتباه والحصول على مكاسب فورية .. وبعضهم يموتون ولو أنهم غير راغبين بذلك عن طريق الخطأ .. حيث يظن بعضهم أن وسيلة إيذاء معينة لن تميتهم ويكون ظنهم غير صحيح .
وفي هذه الحالات لابد من التعرف على التفاصيل بشكل دقيق لاستبعاد النية الحقيقية في قتل النفس ويحتاج ذلك لخبراء الصحة النفسية في كثير من الحالات كما يحتاج للمراقبة والمتابعة.
ولابد من التأكيد في هذه الحالات على ضرورة أن لايثاب الفاعل على سلوكه الخاطئ وأن لايحصل على الامتيازات والمكاسب التي يهدد بأذى نفسه من أجلها .. لأن الخضوع لإبتزازه وتهديداته يساعده على تكرار سلوكه الخاطئ وتثبته . ولابد من التعامل الحذر والدقيق مع هذه الحالات عموماً.
وفي الحالات المرضية الشديدة مثل الاكتئاب الأساسي أو الذهاني أو اضطراب المزاج أو مرض الفصام أو حالات الإدمان المتنوعة لابد من التشخيص الصحيح والعلاج المناسب والمتابعة . وأيضاً في الحالات التي لديها قصة عائلية في الانتحار ، لأن المخاطر تكون أكبر.
ويبقى مرض الاكتئاب المسبب الأساسي للانتحار من خلال سيطرة المزاج الاكتئابي والأفكار السوداوية اليائسة وأيضاً الأفكار الانتحارية التي تراود المريض باستمرار وتدفعه لأن ينهي حياته بسبب الآلام النفسية التي لاتطاق . وبعضهم يتخذ قراره بالانتحار بشكل مسبق ويهيئ نفسه وأموره ويكتب رسالة توضيحية لسلوكه . وبعضهم الآخر يتحدث إلى من حوله من الأهل أو الأصدقاء أو الأطباء حول نيته في إنهاء حياته .. وكل ذلك يستدعي التنبه والتصرف المناسب والعمل على علاج المريض ومراقبته وحمايته إلى أن تتحسن حالته.
وعموماً فإن الشخصيات المزاجية والاندفاعية والعنيفة والمضطربة مهيأة أكثر للسلوك الانتحاري وهي تتصرف عادة وفقاً للحظة دون تقدير وتمحيص للعواقب وتتحكم بسلوكها الانفعالات الشديدة دون التبصر والتأني .
ملاحظات أخيرة:
لابد من التأكيد على أهمية علاج الاكتئاب بمختلف أشكاله ، وكذلك الاضطرابات النفسية الأخرى .. وكل ذلك منتشر في مجتمعاتنا . ولابد من التأكيد على أهمية الصحة النفسية والعلاج النفسي وترسيخ قواعدها ومؤسساتها المناسبة بشكل فعال في المجتمع ، كما لابد من التأكيد على أهمية الوعي النفسي والتربوي والإعلامي الذي يعلي قيم التعامل مع المشكلات ومواجهتها والسير في طرق حلها لدى جيل الشباب والمراهقين خاصة والمجتمع عامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق