الرسام الإسباني غويا ولوحاته التهكمية المعبرة:
ترجمة وإعداد الدكتور حسان المالح- استشاري الطب النفسي - دمشق - العيادة النفسية الاستشارية- أستاذ في الجامعة العربية الأوربية
في عام 1824 استطاع الملك فيرديناد السابع ملك إسبانيا العودة إلى تاج الحكم بمساعدة الفرنسيين بعد فترة من إلقاء القبض عليه .. وقد عاد حاقداً وغاضباً وقام بملاحقة الأحرار والزج بهم في السجون .
وبعد صدور عفو عام مؤقت قام الفنان " فرانشيسكو غويا, Goya " وكان يعمل رساماً في القصر الملكي ، باللجوء إلى الأراضي الفرنسية فقد كان صديقاً لكثير من الأحرار .. وقد استقر في بوردو وتوفي فيها ( 1746- 1828).
وقد رسم أكثر من 700 لوحة متنوعة ونال شهرة واسعة في أسلوبه ومهاراته .. وفي عام 1793 وهو بعمر 47 سنة تعرض لمرض حاد وشديد ثم تحسن خلال عدة شهور ولكنه فقد السمع كلياً وأصبح مكتئباً .. ولايوجد تحديد واضح لنوع المرض الذي أصابه .. ويرجح أنه أصيب بمرض عصبي حاد مثل التهاب السحايا أو التهاب الدماغ أو الملاريا الدماغية .. وقد كان شائعاً في ذلك الزمن استعمال مادة الكينين كعلاج وربما يفسر ذلك إصابته بالصمم فيما بعد . واحتمال إصابته بمرض الزهري بعيد بسبب انتاجيته المستمرة ونشاطه ، وكذلك احتمال التسمم بالرصاص من خلال استعمال الألوان لأنه شفي من مرضه الحاد ، ولايوجد دليل على إصابته بالصرع أو الجلطة الدماغية أو الفصام .
وبعد مرضه هذا تحول إلى عالمه الداخلي في موضوعاته وتعبيره عن ذاته .. كما تحولت ألوانه تدريجياً إلى ألوان قاتمة ..
وفي إحدى لوحاته المؤثرة وقد كانت تعبيراً عن الشكر لصديقه الطبيب" أوجينو أرييتا" أثناء مرضه عام 1812، رسم نفسه وطبيبه معاً في لوحة تعبيرية رائعة نجد فيها الطبيب يسند مريضه الضعيف ويحمل في يديه كأس الدواء وكانت عينا " غويا " جامدتين زجاجيتين ورأسه لايقوى على البقاء مرتفعاً وقد تمسكت يداه بغطاء السرير بطريقة توحي بكثير من التداعيات المؤثرة .. بينما كانت الخلفية تضم أشخاصاً عدة تختبئ قليلاً في الظل وتوحي بالأقدار الخفية المتربصة ...
وفي هذه المرحلة كانت قد مرت على " غويا " عقود من المآسي السياسية والأحداث العنيفة إضافة لآلامه وأمراضه الجسمية والصمم الكلي .. وقد أكد كل ذلك فيه يأسه الصامت الصارخ ..والذي تجلى بلوحاته ورسومه لإصدقائه المتنوعين في الفترة الأخيرة من حياته .. فالبشر ليسوا طيبين بالفطرة ، وليسوا منطقيين أو أحراراً .. وهم مكبلين وفاسدين بسبب الاستبداد والظروف .. كان المجتمع يموج بالأرواح الضائعة والشخصيات الهيستريائية والمجرمة ..
ومع ذلك فإن الحياة بالنسبة له تستحق أن تعاش حتى الدقيقة الأخيرة .. تحت شعار : إنني لازلت أتعلم !!
وقد كان عمره حوالي سبعين عاماً عندما استخدم تقنية " ليثيوغرافي = الطباعة الحجرية " ورسم بها رسومات حول صراع الثيران .. وكانت لوحات مؤثرة وفيها تأكيد على النبل والبطل الحالم .. ولم تعجب تلك اللوحات الفرنسيين كثيراً . وقد أوحت له تقنية ليثيوغرافي تلك التقنية الجديدة التي لم يعرفها من قبل أن يقوم برسومات أخرى مؤثرة فقد رسم رجلاً يندفع بالمزلاج ( Roller Skater) على الأرض ويوشك رأسه أن يرتطم بالأرض من الخلف بسبب اندفاعته وجواره شخص يركب دراجته العادية .. ورسم أيضاً شحاذاً مقطوع الرجلين وعيناه واسعتان وفمه متدل يقبع في كرسيه المتحرك وجسمه الضئيل يغطس ضمن الكرسي وتبدو العجلات المعدنية وكأنها تحتجزه داخلها .
وقد زار "غويا" مأوى للأمراض العقلية في بوردو ورسم مريضاً عقلياً بهيئة شيطان يلبس كيساً فضفاضاً يلتوي جسمه وينحني بشكل يشبه تمثال " العبد لمايكل أنجلو " ويداه خلف ظهره ووجهه ذو شعر كثيف يشبه القش وعظامه ناتئة .. ويظهر في الوجه عين واحدة تعبر عن رعب شديد وحزن مزمن . وقد رسم غويا لوحة هامة بعنوان "مرضى عقليين في الباحة " وفيها عدد من المرضى يتعاركون بالأيدي في باحة المأوى بينما جلس مرضى آخرون بعيداً عن العنف ، وآخرون ينظرون باتجاهات مختلفة وبعضهم يتأملون ..
ومن الصعب أن لا نرى شخصية غويا نفسه في اللوحات الأخيرة التي رسمها لعدد من الأشخاص في أوضاع مختلفة.. وربما كانت هذه اللوحات نوعاً من الرسم الذاتي( Self Portrait ).
وفي لوحة هامة نجد روميو العاشق محبطاً يئن ويتأوه ، رجل متقدم بالسن نصف عار تكبله إمرأة ، وعلى ظهره يتربع جسد الشيطان الضخم يضغطه ويهرسه . وهذه اللوحة تمثل إحدى اللوحات الكابوسية الكلاسيكية التي ابتدعها " غويا " وهي ترمز إلى العجز الجنسي الذكوري .
ومن إبداعات غويا الرسم والنقش على قطع صغيرة بحجم الكف من العاج .. ولديه سلسلة نادرة من هذه الرسوم المصغرة .
وتتميز أعمال الفنان " غويا " عموماً بالجرأة والتجديد والخيال الواسع .. وفي أعماله واقعية كبيرة تجاور الكاريكاتير ، وهجائية شديدة للإنتهاكات الدينية والاجتماعية والسياسية التي سادت عصره . كما أن أعماله أثرت بشكل واضح على الفن الأوروبي في القرن التاسع عشر .
عن: Michael Kimmelman, International Herald Tribune, 28/2/2006 -
James C Harris ,Archives of General Psychiatry,2003,60,1068 -
ترجمة وإعداد الدكتور حسان المالح- استشاري الطب النفسي - دمشق - العيادة النفسية الاستشارية- أستاذ في الجامعة العربية الأوربية
في عام 1824 استطاع الملك فيرديناد السابع ملك إسبانيا العودة إلى تاج الحكم بمساعدة الفرنسيين بعد فترة من إلقاء القبض عليه .. وقد عاد حاقداً وغاضباً وقام بملاحقة الأحرار والزج بهم في السجون .
وبعد صدور عفو عام مؤقت قام الفنان " فرانشيسكو غويا, Goya " وكان يعمل رساماً في القصر الملكي ، باللجوء إلى الأراضي الفرنسية فقد كان صديقاً لكثير من الأحرار .. وقد استقر في بوردو وتوفي فيها ( 1746- 1828).
وقد رسم أكثر من 700 لوحة متنوعة ونال شهرة واسعة في أسلوبه ومهاراته .. وفي عام 1793 وهو بعمر 47 سنة تعرض لمرض حاد وشديد ثم تحسن خلال عدة شهور ولكنه فقد السمع كلياً وأصبح مكتئباً .. ولايوجد تحديد واضح لنوع المرض الذي أصابه .. ويرجح أنه أصيب بمرض عصبي حاد مثل التهاب السحايا أو التهاب الدماغ أو الملاريا الدماغية .. وقد كان شائعاً في ذلك الزمن استعمال مادة الكينين كعلاج وربما يفسر ذلك إصابته بالصمم فيما بعد . واحتمال إصابته بمرض الزهري بعيد بسبب انتاجيته المستمرة ونشاطه ، وكذلك احتمال التسمم بالرصاص من خلال استعمال الألوان لأنه شفي من مرضه الحاد ، ولايوجد دليل على إصابته بالصرع أو الجلطة الدماغية أو الفصام .
وبعد مرضه هذا تحول إلى عالمه الداخلي في موضوعاته وتعبيره عن ذاته .. كما تحولت ألوانه تدريجياً إلى ألوان قاتمة ..
وفي إحدى لوحاته المؤثرة وقد كانت تعبيراً عن الشكر لصديقه الطبيب" أوجينو أرييتا" أثناء مرضه عام 1812، رسم نفسه وطبيبه معاً في لوحة تعبيرية رائعة نجد فيها الطبيب يسند مريضه الضعيف ويحمل في يديه كأس الدواء وكانت عينا " غويا " جامدتين زجاجيتين ورأسه لايقوى على البقاء مرتفعاً وقد تمسكت يداه بغطاء السرير بطريقة توحي بكثير من التداعيات المؤثرة .. بينما كانت الخلفية تضم أشخاصاً عدة تختبئ قليلاً في الظل وتوحي بالأقدار الخفية المتربصة ...
وفي هذه المرحلة كانت قد مرت على " غويا " عقود من المآسي السياسية والأحداث العنيفة إضافة لآلامه وأمراضه الجسمية والصمم الكلي .. وقد أكد كل ذلك فيه يأسه الصامت الصارخ ..والذي تجلى بلوحاته ورسومه لإصدقائه المتنوعين في الفترة الأخيرة من حياته .. فالبشر ليسوا طيبين بالفطرة ، وليسوا منطقيين أو أحراراً .. وهم مكبلين وفاسدين بسبب الاستبداد والظروف .. كان المجتمع يموج بالأرواح الضائعة والشخصيات الهيستريائية والمجرمة ..
ومع ذلك فإن الحياة بالنسبة له تستحق أن تعاش حتى الدقيقة الأخيرة .. تحت شعار : إنني لازلت أتعلم !!
وقد كان عمره حوالي سبعين عاماً عندما استخدم تقنية " ليثيوغرافي = الطباعة الحجرية " ورسم بها رسومات حول صراع الثيران .. وكانت لوحات مؤثرة وفيها تأكيد على النبل والبطل الحالم .. ولم تعجب تلك اللوحات الفرنسيين كثيراً . وقد أوحت له تقنية ليثيوغرافي تلك التقنية الجديدة التي لم يعرفها من قبل أن يقوم برسومات أخرى مؤثرة فقد رسم رجلاً يندفع بالمزلاج ( Roller Skater) على الأرض ويوشك رأسه أن يرتطم بالأرض من الخلف بسبب اندفاعته وجواره شخص يركب دراجته العادية .. ورسم أيضاً شحاذاً مقطوع الرجلين وعيناه واسعتان وفمه متدل يقبع في كرسيه المتحرك وجسمه الضئيل يغطس ضمن الكرسي وتبدو العجلات المعدنية وكأنها تحتجزه داخلها .
وقد زار "غويا" مأوى للأمراض العقلية في بوردو ورسم مريضاً عقلياً بهيئة شيطان يلبس كيساً فضفاضاً يلتوي جسمه وينحني بشكل يشبه تمثال " العبد لمايكل أنجلو " ويداه خلف ظهره ووجهه ذو شعر كثيف يشبه القش وعظامه ناتئة .. ويظهر في الوجه عين واحدة تعبر عن رعب شديد وحزن مزمن . وقد رسم غويا لوحة هامة بعنوان "مرضى عقليين في الباحة " وفيها عدد من المرضى يتعاركون بالأيدي في باحة المأوى بينما جلس مرضى آخرون بعيداً عن العنف ، وآخرون ينظرون باتجاهات مختلفة وبعضهم يتأملون ..
ومن الصعب أن لا نرى شخصية غويا نفسه في اللوحات الأخيرة التي رسمها لعدد من الأشخاص في أوضاع مختلفة.. وربما كانت هذه اللوحات نوعاً من الرسم الذاتي( Self Portrait ).
وفي لوحة هامة نجد روميو العاشق محبطاً يئن ويتأوه ، رجل متقدم بالسن نصف عار تكبله إمرأة ، وعلى ظهره يتربع جسد الشيطان الضخم يضغطه ويهرسه . وهذه اللوحة تمثل إحدى اللوحات الكابوسية الكلاسيكية التي ابتدعها " غويا " وهي ترمز إلى العجز الجنسي الذكوري .
ومن إبداعات غويا الرسم والنقش على قطع صغيرة بحجم الكف من العاج .. ولديه سلسلة نادرة من هذه الرسوم المصغرة .
وتتميز أعمال الفنان " غويا " عموماً بالجرأة والتجديد والخيال الواسع .. وفي أعماله واقعية كبيرة تجاور الكاريكاتير ، وهجائية شديدة للإنتهاكات الدينية والاجتماعية والسياسية التي سادت عصره . كما أن أعماله أثرت بشكل واضح على الفن الأوروبي في القرن التاسع عشر .
عن: Michael Kimmelman, International Herald Tribune, 28/2/2006 -
James C Harris ,Archives of General Psychiatry,2003,60,1068 -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق