تحت موجة كاناغاوا للفنان الياباني هوكوساي:
Under the Wave off Kanagawa
إعداد الدكتور حسان المالح- استشاري الطب النفسي - دمشق - العيادة النفسية الاستشارية - أستاذ في الجامعة العربية الأوربية
" لو منحتني السماء عشر سنوات أخرى أو حتى خمس سنوات ..لأصبحتُ فناناً حقيقياً " "هوكوساي" في عمر 89 سنة.
تعتبر لوحة الفنان الياباني "كاتسوشيكا هوكوساي" (Katsushika Hokusai (1760- 1849 "تحت موجة كاناغاوا " رمزاً مصوراً لمواجهة البشرية للقوى الطبيعية فائقة القدرة . وتمثل قمة الموجة العظيمة في تناثرها وهبوطها صورة المعاناة في بحر هائج.. بينما يقف جبل "فوجي" هادئاً راسخاً في خلفية اللوحة .. وبذلك يظهر التناقض بين قداسة الجبل وطهارته وبين مايبدو أنه غدر البحر .
وأفضل رؤية للوحة هي من اليمين إلى اليسار .. حيث يبدو تهديد الموجة الهائلة أكثر وضوحاً .. وهكذا نظر إليها اليابانيون من معاصري الفنان .
وقد كان البحارة في السفن التي تنقل الأسماك من الجزر الجنوبية إلى العاصمة "طوكيو" يتشبثون بالقوارب ويبعدون أنظارهم عن الفاجعة القادمة عندما يقعون في خطر الغرق ضمن الأمواج ..
وقد واجه "هوكوساي" فواجع عدة في حياته واستطاع أن يعيش إلى 89 سنة .. وفي حياته الطويلة هذه كان مبدعاً لايهدأ ولايستقر ..وقرب موته كان يدعو لأن يعيش سنوات أخرى إضافية كي يتقن أعماله الفنية أكثر .
كان "هوكوساي" الابن المتبنى لحرفي في صناعة الزجاج بمرتبة ساموراي ، وقد عاش "هوكوساي" أكثر من زوجاته ومن أكثر أبنائه . وأصبحت ابنته " أوأي" فنانة وكانت تتعاون معه وترعاه حتى مماته . وقد استمر بعزيمة لاتقهر في إبداع أعماله وتطويرها على الرغم من فقدانه المتكرر لزوجاته وأبنائه ، وعلى الرغم من مجاعة الرز عام 1836 والشلل الذي أصابه والذي رعى نفسه بنفسه أثناءه إلى أن شفي منه .
وكان إنتاجه غزيراً .. ويقال أنه أنهى 30000 لوحة ، وله 15 مجلد من أعماله وفيها أكثر من 4000 رسم تجريبي Sketch لحيوانات وأشخاص وأشياء ، كما تتلمذ على يديه أكثر من خمسين طالب.
كان "هوكوساي" يتنقل بكثرة .. ويقال أنه أقام وعاش في 90 منزل خلال حياته ..وكان يجرب طرقاً وأساليباً جديدة في فنه .. وكان يغير إسمه كلما وجد تقنية فنية مختلفة على اعتبار أنها هويته الجديدة وله 30 إسم مختلف.. وإسم "هوكوساي" هو الإسم المعروف أكثر في الغرب وقد استعمل هذا الإسم عندما رسم لوحاته الخالدة المسماة 36 منظر لجبل "فوجي" خلال الأعوام 1830-1832. وذلك عندما كان في نهاية الستينات من عمره ( جبل فوجي هو أعلى جبال اليابان وارتفاعه 3776 م وهو أحد ثلاثة جبال مقدسة ، وقد توقف البركان فيه عام 1708) . وقد اختار إسمه ذلك عندما أصبح مستقلاً عن أساتذته ومعلميه.. ويعكس الإسم قراره بأن تكون قوى العالم الطبيعي هي المعلم والملهم ..وتعني كلمة "هوكوساي" في اليابانية مرسم( ستوديو) النجم الشمالي . والنجم الشمالي هو النجم الذي تدور بقية النجوم حوله وهو جزء من مجموعة النجوم القطبية التي ترتبط بالقوة الحامية الإلهية "مايوكن" البوذية . وفي التعاليم البوذية أن كل البشر رجالاً ونساءً لديهم فطرياً "طبيعة بوذا" . وكان "هوكوساي" يمارس طقوسه في التحديق إلى السماء ليلاً والنظر إلى انعكاسات النجوم على سطح الماء .
تظهر أساليب "هوكوساي" الفنية خلال حياته الطويلة عدة نماذج ومنها رسوم دنيوية حياتية بالحبر ، صور شهوانية مثل " أحلام زوجات الصيادين " ، ومزيج من الأساليب المختلطة لفن القرن الثامن والتاسع عشر الياباني وكان يعتبر الخبير الياباني في الرسوم الصينية في عصره . وعندما وصل إلى سن السبعين وكان قد أصبح رساماً معروفاً في مختلف المجالات ، شعر بعدم الرضا عن نفسه وأنه لم يصل إلى تحقيق إمكاناته الفنية ..ولم تعجبه الطبيعة الإعلامية لأعماله السابقة . وتوجه نحو رسم المناظر الطبيعية التي كان الناس يفضلونها . وقد أظهر "هوكوساي" في مناظره الطبيعية المتعة والراحة والأمان أكثر من السعادة الهاربة والعالم المضطرب . وكان محظوظاً بعد عام 1829 بسبب توفر صباغ اللون الأزرق الثابت المصنوع في ألمانيا بينما كان اللون قبل ذلك يبهت ويزول تدريجياً .
إن لوحات "هوكوساي" "36 منظر لجبل فوجي" بتدرجات لونها الأزرق استطاعت أن تعيش عبر الزمن .. وسلسلة اللوحات هذه ابتدأت في مرحلة عصيبة من حياة الفنان فقد ماتت زوجته عام 1828 وكان يعيش مضايقات ومشكلات وديون بسبب حفيده الأكبر الذي انتقل إلى رعايته بعد موت أمه ، ولم يكن يرسم بشكل جدي إلا بعد انتقال الحفيد إلى رعاية أبيه .
وفي عمر 75 سنة كتب تفاصيل سيرته الذاتية بعد إنهائه 100 منظر لجبل فوجي ..وفيها تفاصيل عن رؤيته الفنية لمراحل حياته المختلفة وصولاً إلى المرحلة الحالية كما طرح أمنياته ونظرته للمستقبل ..
"منذ عمر 6 سنوات كنت أرسم مقاطع مما أراه حولي .. ثم أصبحت فناناً .. وفي عمر الخمسين صرت أرسم لوحات كانت لها أصداء جيدة ..ولكن لاشيء مما رسمته قبل عمر السبعين يستحق الاهتمام ..وفي 73 سنة بدأت أفهم تكوين العصافير والحيوانات والحشرات والأسماك وأيضاً كيف تنمو النباتات .. وإذا بقيت على محاولاتي أكثر وأكثر فمن المؤكد أنني سأفهمهم بشكل أفضل في عمر 86 سنة .. وفي عمر 90 سنةربما سأصل إلى فهم طبيعتهم الأصلية . وفي عمر 100 سنة ربما سيكون لدي فهم روحاني إيجابي لهم .. بينما في عمر 130 سنة أو 140 سنة أو أكثر .. سوف أصل إلى مرحلة تكون فيها كل نقطة وكل ضربة من فرشاتي أرسمها .. مليئة بالحياة !!"
وكان إسمه الأخير " كاكيو روجين " وهو يعني باليابانية "رجل عجوز مجنون بالرسم ".
بعد حوالي نصف قرن من موت "هوكوساي" في عام 1849 كانت أعماله ورسومات الكتب التي قام بها قد وصلت إلى شعبية خاصة في أوروبا ولاسيما في فرنسا . وقد وجد فيها الانطباعيون من الفنانين مناسبة لتأكيد وجهات نظرهم ضد الأكاديميين المحافظين . وقد ادعى " كلود مونيه " أنه رأى أعمال اليابانيين للمرة الأولى في طفولته في مدينته "لوهافر" الساحلية . وقد جمع من هذه اللوحات أكثر من 230 لوحة خلال حياته .. وكانت لوحة " تحت موجة كاناغاوا " ضمن مقتنياته ، وكان لديه 7 لوحات من سلسلة لوحات جبل فوجي .
ومن المعروف أن "مونيه" له لوحات مسلسلة وأنه تأثر بالفنان "هوكوساي" .. وعلى الرغم من الاختلاف الكبير في موضوعات لوحاته عن موضوعات هوكوساي، فإن هناك تشابهات في طريقة تكوين اللوحة ولاسيما في لوحة "ريح جنوبية وفجر صاف"South Wind, Clear Dawn أو المعروفة بشكل أفضل بلوحة "فوجي الأحمر " ، مع لوحة مونيه " الغروب"Sunset أو "سويقات القش"Haystack .
وقد تابع "مونيه" اندفاعاته الإبداعية الخاصة غير عالم بأن "هوكوساي" قد استفاد من المنظور الأوروبي من الكتب الأوروبية واللوحات وغيرها التي دخلت إلى اليابان عن طريق السفن الهولندية إلى ميناء "ناكازاكي" .
وقد استفاد "هوكوساي" في معالجته للمنظور الفني والأبعاد من الرسومات الصينية التقليدية وربما تأثر أيضاً بإدخال المناظير المقربة إلى اليابان .. لأن بعضاً من لوحاته يوحي بتسطح المنظر عبر المنظار المقرب ..
في لوحة "فوجي الأحمر" يظهر الجبل عند الفجر في يوم صاح وعين المشاهد تميل تدريجياً مع انحناءة الجبل المقدس اليسرى .. وأولاً ترى الأشجار دائمة الخضرة تنطق باللون الأخضر ثم تتحرك باتجاه خط الشجر إلى قمة الفجر الحمراء التي تقف بقوة بالتباين مع طبقات من الغيوم البيضاء العديدة التي تلتف حولها .
إنه الخريف ..ولكن بياض ثلج الشتاء يزين وجه الجبل وبانسياب لطيف يزين المنحدرات الجانبية ، واللون الأخضر الفاتح والداكن لمساحات من الأراضي المحيطة به يجعل الجبل متداخلاً فيما حوله .
وقد عرضت نسخة من لوحة "هوكوساي" "ريح جنوبية وفجر صاف" في ستوديو "مونيه" في منزله في "جيفرني" . ويبدو أن هذه اللوحة قد أوحت لمونيه بلوحته الشهيرة " الغروب" . حيث رسم مونيه نهاية النهار مبيناً سماء الغسق ومبسطاً ألوان السماء مثل مافعل هوكوساي .. وفيها يبدو في سويقات القش نوع من التظليل مقارنة مع اللون الأصفر والبرتقالي لسماء الغروب . وقد لون "مونيه" سويقات القش بالبرتقالي المعتق مثل الأشجار على طرفي جبل "فوجي" ، واستعمل فيها ضربات خفيفة من ريشته مليئة باللون تعكس ألوان الحقول المجاورة .
كما استعمل "مونيه" خطوطاً من اللون البرتقالي الفاتح ليوضح حدود الشكل الخارجي لسويقات القش ويظهر أن الشمس قد صنعت هالة دافئة حولها . واستعمل الخطوط الغامقة كنوع من التظليل للسويقات قبل أن يتركها حرة أمام سماء المساء المتوهجة .. ويماثل ذلك مافعله "هوكوساي" في رسمه لخط أسود يوضح معالم جبل "فوجي" .
تم تقدير "هوكوساي" جيداً في الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان الفنان الياباني الأول الذي يقام له عرض لأعماله في المتحف عام 1893 .
وقد أوحت لوحة "هوكوساي""تحت موجة كاناغاوا" للفنان الفرنسي "كلود دي بوسي" لوحته "البحر" La Mer ، وتقديراً له فقد أصر على وضع هذه اللوحة على غلاف أعماله الموسيقية .
وأما الشاعر الألماني "رينير ماريا ريلكه " فقد أوحت له لوحة "جبل فوجي" قصيدته "الجبل"Der Berg. وبالنسبة للفنان الفرنسي "بول سيزان" فقد اهتم عموماً بسلسلة لوحات "هوكوساي" "36 منظر لجبل فوجي" وقد رسم عدة مناظر لجبل القديسة "فيكتوريا" قرب منزله في "إيكس – فرنسا" .
وبالنسبة للفنان الروسي "فاسيلي كاندينسكي" فإن لوحة مونيه "الغروب" والتي استوحاها بدوره من لوحة "هوكوساي" " فوجي الأحمر " ، كان لها دوراً كبيراً في تركه مهنة المحاماة وتحوله إلى الفن ...
ومؤخراً فقد استعملت لوحة "تحت موجة كاناغاوا" شعاراً "للتسونامي""أمواج المد البحري" Tsunami من قبل المنظمات الدولية .. ولكن الموجة الهائلة The Great Wave ليست "تسونامي" .. إنها موجة سببتها الريح وارتفاعها الكبير مبالغة فنية ..بينما يعني "تسونامي" زلزال يؤدي إلى زيادة سرعة المياه وهي ترتفع وتنخفض إلى أن تصل إلى الشواطئ .. ولكنها لاتظهر كموجة عالية في البحر ..وعند الشواطئ يمكن للتسونامي أن يتجمع ويشكل قمة عالية ولكنها حادة الانحدار ، وليست مثل الموجة الهائلة ..
لقد حلم "هوكوساي" باكتشاف جوهر الأشياء إضافة لشكلها ..وتمنى أن يفعل ذلك في عمر 100سنة ..ولكنه توفي للأسف في عمر 89 سنة..وفي قصيدته الوداعية نجد شخصيته الهزلية .. حيث يقول : "ربما كان مشكوكاً فيه أنني سأتبدل إلى شبح مسائي وأصبح صيفاً مغربياً ..".
كانت سنة ميلاده هي سنة التنين .. ومماته في يوم التنين من السنة الجديدة عام 1849 .. وقد رسم "هوكوساي" تنيناً فرحاً ربما يمثله هو ويرمز إلى نجاحه في حياته ..وقد صعد إلى السماء في غيمة سوداء من الدخان فوق جبل "فوجي" الذي يحبه .
كلمة أخيرة .. من الواضح أن حياة الفنان وتاريخه الغني وأعماله الهامة تطرح أسئلة نفسية وفنية وإبداعية وفكرية متنوعة .. وتقول إحدى اللوحات السومرية " أيها الإنسان .. إنك مهما بلغت طولاً فلن تصل إلى السماء .. ومهما بلغت عرضاً فلن تحيط بالأرض " وتؤكد لوحة " تحت موجة كاناغاوا " الضعف البشري في مواجهة الكون الكبير ..ولكنها ربما تفتح الآفاق أمام سعي الإنسان وجهوده نحو حياة أفضل ونحو السمو إلى الأعلى .
المراجع :
-James C.Harris MD, Archives of General Psychiatry. VOL 65(No1)Jan 2008.
- Wikipedia.com
Under the Wave off Kanagawa
إعداد الدكتور حسان المالح- استشاري الطب النفسي - دمشق - العيادة النفسية الاستشارية - أستاذ في الجامعة العربية الأوربية
" لو منحتني السماء عشر سنوات أخرى أو حتى خمس سنوات ..لأصبحتُ فناناً حقيقياً " "هوكوساي" في عمر 89 سنة.
تعتبر لوحة الفنان الياباني "كاتسوشيكا هوكوساي" (Katsushika Hokusai (1760- 1849 "تحت موجة كاناغاوا " رمزاً مصوراً لمواجهة البشرية للقوى الطبيعية فائقة القدرة . وتمثل قمة الموجة العظيمة في تناثرها وهبوطها صورة المعاناة في بحر هائج.. بينما يقف جبل "فوجي" هادئاً راسخاً في خلفية اللوحة .. وبذلك يظهر التناقض بين قداسة الجبل وطهارته وبين مايبدو أنه غدر البحر .
وأفضل رؤية للوحة هي من اليمين إلى اليسار .. حيث يبدو تهديد الموجة الهائلة أكثر وضوحاً .. وهكذا نظر إليها اليابانيون من معاصري الفنان .
وقد كان البحارة في السفن التي تنقل الأسماك من الجزر الجنوبية إلى العاصمة "طوكيو" يتشبثون بالقوارب ويبعدون أنظارهم عن الفاجعة القادمة عندما يقعون في خطر الغرق ضمن الأمواج ..
وقد واجه "هوكوساي" فواجع عدة في حياته واستطاع أن يعيش إلى 89 سنة .. وفي حياته الطويلة هذه كان مبدعاً لايهدأ ولايستقر ..وقرب موته كان يدعو لأن يعيش سنوات أخرى إضافية كي يتقن أعماله الفنية أكثر .
كان "هوكوساي" الابن المتبنى لحرفي في صناعة الزجاج بمرتبة ساموراي ، وقد عاش "هوكوساي" أكثر من زوجاته ومن أكثر أبنائه . وأصبحت ابنته " أوأي" فنانة وكانت تتعاون معه وترعاه حتى مماته . وقد استمر بعزيمة لاتقهر في إبداع أعماله وتطويرها على الرغم من فقدانه المتكرر لزوجاته وأبنائه ، وعلى الرغم من مجاعة الرز عام 1836 والشلل الذي أصابه والذي رعى نفسه بنفسه أثناءه إلى أن شفي منه .
وكان إنتاجه غزيراً .. ويقال أنه أنهى 30000 لوحة ، وله 15 مجلد من أعماله وفيها أكثر من 4000 رسم تجريبي Sketch لحيوانات وأشخاص وأشياء ، كما تتلمذ على يديه أكثر من خمسين طالب.
كان "هوكوساي" يتنقل بكثرة .. ويقال أنه أقام وعاش في 90 منزل خلال حياته ..وكان يجرب طرقاً وأساليباً جديدة في فنه .. وكان يغير إسمه كلما وجد تقنية فنية مختلفة على اعتبار أنها هويته الجديدة وله 30 إسم مختلف.. وإسم "هوكوساي" هو الإسم المعروف أكثر في الغرب وقد استعمل هذا الإسم عندما رسم لوحاته الخالدة المسماة 36 منظر لجبل "فوجي" خلال الأعوام 1830-1832. وذلك عندما كان في نهاية الستينات من عمره ( جبل فوجي هو أعلى جبال اليابان وارتفاعه 3776 م وهو أحد ثلاثة جبال مقدسة ، وقد توقف البركان فيه عام 1708) . وقد اختار إسمه ذلك عندما أصبح مستقلاً عن أساتذته ومعلميه.. ويعكس الإسم قراره بأن تكون قوى العالم الطبيعي هي المعلم والملهم ..وتعني كلمة "هوكوساي" في اليابانية مرسم( ستوديو) النجم الشمالي . والنجم الشمالي هو النجم الذي تدور بقية النجوم حوله وهو جزء من مجموعة النجوم القطبية التي ترتبط بالقوة الحامية الإلهية "مايوكن" البوذية . وفي التعاليم البوذية أن كل البشر رجالاً ونساءً لديهم فطرياً "طبيعة بوذا" . وكان "هوكوساي" يمارس طقوسه في التحديق إلى السماء ليلاً والنظر إلى انعكاسات النجوم على سطح الماء .
تظهر أساليب "هوكوساي" الفنية خلال حياته الطويلة عدة نماذج ومنها رسوم دنيوية حياتية بالحبر ، صور شهوانية مثل " أحلام زوجات الصيادين " ، ومزيج من الأساليب المختلطة لفن القرن الثامن والتاسع عشر الياباني وكان يعتبر الخبير الياباني في الرسوم الصينية في عصره . وعندما وصل إلى سن السبعين وكان قد أصبح رساماً معروفاً في مختلف المجالات ، شعر بعدم الرضا عن نفسه وأنه لم يصل إلى تحقيق إمكاناته الفنية ..ولم تعجبه الطبيعة الإعلامية لأعماله السابقة . وتوجه نحو رسم المناظر الطبيعية التي كان الناس يفضلونها . وقد أظهر "هوكوساي" في مناظره الطبيعية المتعة والراحة والأمان أكثر من السعادة الهاربة والعالم المضطرب . وكان محظوظاً بعد عام 1829 بسبب توفر صباغ اللون الأزرق الثابت المصنوع في ألمانيا بينما كان اللون قبل ذلك يبهت ويزول تدريجياً .
إن لوحات "هوكوساي" "36 منظر لجبل فوجي" بتدرجات لونها الأزرق استطاعت أن تعيش عبر الزمن .. وسلسلة اللوحات هذه ابتدأت في مرحلة عصيبة من حياة الفنان فقد ماتت زوجته عام 1828 وكان يعيش مضايقات ومشكلات وديون بسبب حفيده الأكبر الذي انتقل إلى رعايته بعد موت أمه ، ولم يكن يرسم بشكل جدي إلا بعد انتقال الحفيد إلى رعاية أبيه .
وفي عمر 75 سنة كتب تفاصيل سيرته الذاتية بعد إنهائه 100 منظر لجبل فوجي ..وفيها تفاصيل عن رؤيته الفنية لمراحل حياته المختلفة وصولاً إلى المرحلة الحالية كما طرح أمنياته ونظرته للمستقبل ..
"منذ عمر 6 سنوات كنت أرسم مقاطع مما أراه حولي .. ثم أصبحت فناناً .. وفي عمر الخمسين صرت أرسم لوحات كانت لها أصداء جيدة ..ولكن لاشيء مما رسمته قبل عمر السبعين يستحق الاهتمام ..وفي 73 سنة بدأت أفهم تكوين العصافير والحيوانات والحشرات والأسماك وأيضاً كيف تنمو النباتات .. وإذا بقيت على محاولاتي أكثر وأكثر فمن المؤكد أنني سأفهمهم بشكل أفضل في عمر 86 سنة .. وفي عمر 90 سنةربما سأصل إلى فهم طبيعتهم الأصلية . وفي عمر 100 سنة ربما سيكون لدي فهم روحاني إيجابي لهم .. بينما في عمر 130 سنة أو 140 سنة أو أكثر .. سوف أصل إلى مرحلة تكون فيها كل نقطة وكل ضربة من فرشاتي أرسمها .. مليئة بالحياة !!"
وكان إسمه الأخير " كاكيو روجين " وهو يعني باليابانية "رجل عجوز مجنون بالرسم ".
بعد حوالي نصف قرن من موت "هوكوساي" في عام 1849 كانت أعماله ورسومات الكتب التي قام بها قد وصلت إلى شعبية خاصة في أوروبا ولاسيما في فرنسا . وقد وجد فيها الانطباعيون من الفنانين مناسبة لتأكيد وجهات نظرهم ضد الأكاديميين المحافظين . وقد ادعى " كلود مونيه " أنه رأى أعمال اليابانيين للمرة الأولى في طفولته في مدينته "لوهافر" الساحلية . وقد جمع من هذه اللوحات أكثر من 230 لوحة خلال حياته .. وكانت لوحة " تحت موجة كاناغاوا " ضمن مقتنياته ، وكان لديه 7 لوحات من سلسلة لوحات جبل فوجي .
ومن المعروف أن "مونيه" له لوحات مسلسلة وأنه تأثر بالفنان "هوكوساي" .. وعلى الرغم من الاختلاف الكبير في موضوعات لوحاته عن موضوعات هوكوساي، فإن هناك تشابهات في طريقة تكوين اللوحة ولاسيما في لوحة "ريح جنوبية وفجر صاف"South Wind, Clear Dawn أو المعروفة بشكل أفضل بلوحة "فوجي الأحمر " ، مع لوحة مونيه " الغروب"Sunset أو "سويقات القش"Haystack .
وقد تابع "مونيه" اندفاعاته الإبداعية الخاصة غير عالم بأن "هوكوساي" قد استفاد من المنظور الأوروبي من الكتب الأوروبية واللوحات وغيرها التي دخلت إلى اليابان عن طريق السفن الهولندية إلى ميناء "ناكازاكي" .
وقد استفاد "هوكوساي" في معالجته للمنظور الفني والأبعاد من الرسومات الصينية التقليدية وربما تأثر أيضاً بإدخال المناظير المقربة إلى اليابان .. لأن بعضاً من لوحاته يوحي بتسطح المنظر عبر المنظار المقرب ..
في لوحة "فوجي الأحمر" يظهر الجبل عند الفجر في يوم صاح وعين المشاهد تميل تدريجياً مع انحناءة الجبل المقدس اليسرى .. وأولاً ترى الأشجار دائمة الخضرة تنطق باللون الأخضر ثم تتحرك باتجاه خط الشجر إلى قمة الفجر الحمراء التي تقف بقوة بالتباين مع طبقات من الغيوم البيضاء العديدة التي تلتف حولها .
إنه الخريف ..ولكن بياض ثلج الشتاء يزين وجه الجبل وبانسياب لطيف يزين المنحدرات الجانبية ، واللون الأخضر الفاتح والداكن لمساحات من الأراضي المحيطة به يجعل الجبل متداخلاً فيما حوله .
وقد عرضت نسخة من لوحة "هوكوساي" "ريح جنوبية وفجر صاف" في ستوديو "مونيه" في منزله في "جيفرني" . ويبدو أن هذه اللوحة قد أوحت لمونيه بلوحته الشهيرة " الغروب" . حيث رسم مونيه نهاية النهار مبيناً سماء الغسق ومبسطاً ألوان السماء مثل مافعل هوكوساي .. وفيها يبدو في سويقات القش نوع من التظليل مقارنة مع اللون الأصفر والبرتقالي لسماء الغروب . وقد لون "مونيه" سويقات القش بالبرتقالي المعتق مثل الأشجار على طرفي جبل "فوجي" ، واستعمل فيها ضربات خفيفة من ريشته مليئة باللون تعكس ألوان الحقول المجاورة .
كما استعمل "مونيه" خطوطاً من اللون البرتقالي الفاتح ليوضح حدود الشكل الخارجي لسويقات القش ويظهر أن الشمس قد صنعت هالة دافئة حولها . واستعمل الخطوط الغامقة كنوع من التظليل للسويقات قبل أن يتركها حرة أمام سماء المساء المتوهجة .. ويماثل ذلك مافعله "هوكوساي" في رسمه لخط أسود يوضح معالم جبل "فوجي" .
تم تقدير "هوكوساي" جيداً في الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان الفنان الياباني الأول الذي يقام له عرض لأعماله في المتحف عام 1893 .
وقد أوحت لوحة "هوكوساي""تحت موجة كاناغاوا" للفنان الفرنسي "كلود دي بوسي" لوحته "البحر" La Mer ، وتقديراً له فقد أصر على وضع هذه اللوحة على غلاف أعماله الموسيقية .
وأما الشاعر الألماني "رينير ماريا ريلكه " فقد أوحت له لوحة "جبل فوجي" قصيدته "الجبل"Der Berg. وبالنسبة للفنان الفرنسي "بول سيزان" فقد اهتم عموماً بسلسلة لوحات "هوكوساي" "36 منظر لجبل فوجي" وقد رسم عدة مناظر لجبل القديسة "فيكتوريا" قرب منزله في "إيكس – فرنسا" .
وبالنسبة للفنان الروسي "فاسيلي كاندينسكي" فإن لوحة مونيه "الغروب" والتي استوحاها بدوره من لوحة "هوكوساي" " فوجي الأحمر " ، كان لها دوراً كبيراً في تركه مهنة المحاماة وتحوله إلى الفن ...
ومؤخراً فقد استعملت لوحة "تحت موجة كاناغاوا" شعاراً "للتسونامي""أمواج المد البحري" Tsunami من قبل المنظمات الدولية .. ولكن الموجة الهائلة The Great Wave ليست "تسونامي" .. إنها موجة سببتها الريح وارتفاعها الكبير مبالغة فنية ..بينما يعني "تسونامي" زلزال يؤدي إلى زيادة سرعة المياه وهي ترتفع وتنخفض إلى أن تصل إلى الشواطئ .. ولكنها لاتظهر كموجة عالية في البحر ..وعند الشواطئ يمكن للتسونامي أن يتجمع ويشكل قمة عالية ولكنها حادة الانحدار ، وليست مثل الموجة الهائلة ..
لقد حلم "هوكوساي" باكتشاف جوهر الأشياء إضافة لشكلها ..وتمنى أن يفعل ذلك في عمر 100سنة ..ولكنه توفي للأسف في عمر 89 سنة..وفي قصيدته الوداعية نجد شخصيته الهزلية .. حيث يقول : "ربما كان مشكوكاً فيه أنني سأتبدل إلى شبح مسائي وأصبح صيفاً مغربياً ..".
كانت سنة ميلاده هي سنة التنين .. ومماته في يوم التنين من السنة الجديدة عام 1849 .. وقد رسم "هوكوساي" تنيناً فرحاً ربما يمثله هو ويرمز إلى نجاحه في حياته ..وقد صعد إلى السماء في غيمة سوداء من الدخان فوق جبل "فوجي" الذي يحبه .
كلمة أخيرة .. من الواضح أن حياة الفنان وتاريخه الغني وأعماله الهامة تطرح أسئلة نفسية وفنية وإبداعية وفكرية متنوعة .. وتقول إحدى اللوحات السومرية " أيها الإنسان .. إنك مهما بلغت طولاً فلن تصل إلى السماء .. ومهما بلغت عرضاً فلن تحيط بالأرض " وتؤكد لوحة " تحت موجة كاناغاوا " الضعف البشري في مواجهة الكون الكبير ..ولكنها ربما تفتح الآفاق أمام سعي الإنسان وجهوده نحو حياة أفضل ونحو السمو إلى الأعلى .
المراجع :
-James C.Harris MD, Archives of General Psychiatry. VOL 65(No1)Jan 2008.
- Wikipedia.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق