لماذا يرسم "بوتيرو" أشخاصاً بدينين؟
Why does Botero Paint Fat People
ترجمة وإعداد الدكتور حسان المالح- استشاري الطب النفسي - دمشق - العيادة النفسية الاستشارية - أستاذ في الجامعة العربية الدولية (الأوربية)
مقدمة:
"فيرناندو بوتيرو" من مواليد عام 1932 كولومبيا ، توفي أبوه وعمره 4 سنوات ، أولى رسوماته للصحف المحلية في عمر 16 عاماً حيث تابع دراسته الثانوية وعرض لوحاته محلياً . ثم سافر إلى إسبانيا مع مجموعة من أصدقائه ودرس فيها الفن كما سافر إلى إيطاليا ثم فرنسا وعمق دراسته الفنية لفناني عصر النهضة في متحف اللوفر .
تتضمن أعماله طبيعة صامتة ومناظر طبيعية ، وتتميز لوحاته ومنحوتاته بالتضخيم والبدانة وأجسامه مستديرة شديدة الإمتلاء. يرسم رموز القوّة والسلطة في كل مكان، مثل الرؤساء والجنود والكهنة،وهناك لمسات مرح خاصة سواء في محاكاة لوحات شهيرة أو في تصوير رموز السلطة..
وهو يعتبر من أشهر الفنانين الكولومبيين في الوقت الحالي ، ويعتبر فناناً تجريدياً بشكل أو بآخر ..وتعرض أعماله ومنحوتاته في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان ، وهو يعيش في باريس منذ عام 2003 وله لوحات عديدة حول الحرب الأهلية وحول المافيا في مسقط رأسه التي كاد أن يقتل بسببها .وقد لقي المزيد من الاهتمام في عام 2005 بعد أن رسم أكثر من 180 لوحة وعرضها في أوروبا بعد أن قرأ عن أعمال التعذيب بعد فضيحة "سجن أبو غريب" في العراق ، كما عرضت هذه اللوحات في الجامعة الأمريكية في واشنطن عام 2007. خرج "بوتيرو" إلى العالم بصرخة ملونة ومدوية مرسومة على القماش لأجساد معذبة ومنزوعة الكرامة .
لماذا يرسم "بوتيرو" أشخاصاً بدينين ؟
يجيب "بوتيرو" دائماً : أنا لاأرسم أشخاصاً بدينين ..وإجابته هذه غامضة ومثيرة بالطبع ..لأن جميع الأجساد التي يرسمها ليست نحيلة أو هزيلة بل إنها جميعها أجساماً ممتلئة وبدينة وفي بعض الحالات بدينة جداً .ولابد من التأكيد أن "بوتيرو" لايرسم فقط أشخاصاً بدينين ولكن كل الأشياء الأخرى في لوحاته سمينة أيضاً ..
وهو يؤكد أن التضخيم في لوحاته ينبع من حسه الجمالي وأن ذلك نوع من الأسلوب الذي يعجبه ويتبناه .
إن لوحات "بوتيرو" ليست واقعية .. وهي تتوجه نحو الواقع ولكن لاتصوره حرفياً ..إن كل شيء في لوحاته ضخم وذو حجم كبير .. الموز ، ضوء المصباح ، شجرة التمر ، الحيوانات ، وطبعاً الرجال والنساء ..
يهتم "بوتيرو" بتحويل أو تشويه الواقع كأسلوب لتحويل الواقع إلى فن .وهو يقول إن التشويه في الفن له تاريخه الطويل .. ومثلاً فإن "جيوتو" و"رفائيل" و"إلجريكو" و"بيكاسو" كلهم شوهوا الواقع والأشياء ليصنعوا شيئاً آخر منه .
وبالنسبة لجيوتو فقد ركز على مرونة الشكل وحوافه مما أعطى انطباعاً بوجود البعد الثالث في الشكل المسطح .أما "روبينز" فقد استعمل بدوره حساسية الكتل اللحمية ليقدم روعة الإيمان في لوحاته .. وبشكل مخالف تماماً لصوفية "إلجريكو"الذي اعتمد على تطويل الأجسام وثنيها باتجاه الأعلى كأنها تسعى إلى السماء وقد عبر بذلك عن نزعته الدينية الإسبانية .وأما بالنسبة لألبرتو جياكوميتي في القرن العشرين فقد عبرت أشكاله النحيلة الدقيقة عن فلسفته الوجودية بشكل واضح .
إن التضخيم الثابت والشامل المتكرر كأسلوب فني كما ذكر سابقاً هو أسلوب معروف .. ولكن بالنسبة لبوتيرو فقد اعتمد التشويه كقاعدة أساسية في فنه وحولها إلى أسلوب خاص .إن التشويه الذي لايخدم غرضاً آخر يمكن اعتباره أسلوباً شيطانياً أو أنه نوع من الكاريكاتير.. وكلا الحالين لاينطبقان على "بوتيرو" .. وعلى العكس فإن التشويهات التي يصنعها تنبع من الرغبة في زيادة الطبيعة الحسية للوحاته .
وهو يقول: "من المهم معرفة مصدر اللذة التي نحصل عليها عندما نشاهد لوحة فنية .. بالنسبة لي إنها لذة الحياة والوجود مع اللذة الحسية للأشكال ..وهكذا فإن المشكلة بالنسبة لي كيفية خلق هذه اللذة الحسية للأشكال".
إن استعمال الأحجام الضخمة في الفن يعود إلى القيم الإبداعية التي تعتمدها الأعمال الكلاسيكية حيث كان بوتيرو معجباً بالمعلمين الأوائل الإيطاليين إضافة لإعجابه بالفن اللاتيني الذي يعتمد على تمجيد عظمة الله وأيضاً عظمة الحياة نفسها .
إن تناول "بوتيرو" بأسلوبه التضخيمي لأي موضوع يجعل هذا الموضوع يفقد خشونته ووحشيته وتطرفه .. فالمنازل في لوحاته لم تعد خانقة ، وصراع الثيران فقد قسوته ، والمرأة التي تطلي أظافرها بالطلاء الأحمر لم تعد سخيفة ، وحتى الحب فقد كونه مثيراً أو شهوانياً.
إن الأحجام الكبيرة التي يستعملها هي العصا السحرية التي يحول من خلالها الحياة والعالم إلى واقع عائم غير واقعي ..إن الأحجام الكبيرة التي يستعملها تتحول ببساطة إلى أشكال بالونية خفيفة تكاد تطير ..
إن نقاد الفن العالميين لم يستطيعوا إلى الآن أن يكتشفوا أية فرضية صحيحة تكمن خلف أسلوبه في تشكيل لوحاته .. وساهم ذلك في عزلة أعماله عن الاتجاهات الفنية الشائعة في عصره. وربما ارتبط ذلك بتحفظ النقاد الأنجلو أمريكان على الجسد العدائي غير المثير الذي يصوره بوتيرو كما أشار إلى ذلك أحد كتاب "بيرو" الشهيرين وهو يتساءل هل تأكيد الحياة يعتبر سطحياً ؟ وهل المعاناة هي الضخمة والكبيرة فقط ؟
إن أعمال "بوتيرو" تكشف نفسها على أنها تقترب من حافة الهاوية ولكنها لاتغوص فيها . وإن أسلوب بوتيرو المتعمد في التضخيم والذي تمتد جذوره في تاريخ الفن والذي يمكننا أن نسميه أسلوباً متميزاً هو الذي يفرق "بوتيرو" عن الرسامين المبتدئين السذج .
عندما بدأ بوتيرو بالرسم في كولومبيا فإن أسلوبه كان يتبع الأسلوب العالمي الحديث . ولكنه عندما بدأ بدراسة الفن الكلاسيكي اكتشف أسلوبه الذي يعبر عن روح القارة الأمريكية الجنوبية .
هل النحف يعبر عن إنسان المدينة ؟ وهل البدانة تعبر عن إنسان الريف ؟ والحقيقة أنه في العامية الشائعة في أميركا اللاتينية فإن البدانة والسمنة ترتبط بصفات إيجابية مثل الصحة الجيدة والغنى وحب الحياة . وأيضاً يرتبط الأشخاص البدينيون بالمزاج الجيد والمتع الحسية والخلق الحسن . ومن المؤكد أن "بوتيرو" قد استخدم الصفات المرتبطة بقارته مثل الاحتفالية والألوان الحارة ، والقيلولة والطعام الجيد .. وبالتالي فإن ردود فعل من يشاهد لوحاته تتسم غالباً بالسرور والاسترخاء .. ومما لاشك فيه أن هناك ارتباط بين أسلوبه وروحية التقاليد الكولومبية القديمة التي تتغذى بالأساطير والخرافات والتي تحب الرموز والاستعارات والتي تمتلك قيم التضخيم الإبداعية المتمسكة باللذّة المطلقة المضخمة والعفوية. إن التقشف هنا بعيد جداً ولامكان له .. " كل شيء متوفر ووافر " هو الشعار الذي يسود في أميركا اللاتينية .
ومن الممكن أن يكون هناك جوانب نفسية لاشعورية مرتبطة بأشكال بوتيرو الضخمة والأحجام المتدفقة التي يرسمها .. ومن المقبول أن هناك تناقضات يمكن اكتشافها في عالم بوتيرو الفني المولع بالترف..من القدور التي يتصاعد منها البخار إلى الفواكه الناضجة الممتعة ومخازن اللحوم الوفيرة ..
ويقول الكاتب الإيطالي الشهير "ألبرتو مورافيا" : أنه رأى في أجسام بوتيرو الممتلئة وأرجلها الثقيلة عوامل نفسية وليس نواح جمالية فقط ..إنها تعكس حساً مظلماً وألماً ومعاناة في هذا العالم المنتفخ..وفي الوقت نفسه تعكس شللاً وخدراً وفقداناً لحس الألم ..إن الثورات التي حدثت في أمريكا اللاتينية وإعلان الحرب على الفقر وعدم المساواة وعلى الديكتاتورية والعنف ..كل ذلك تم ترويضه وتحويله في لوحات وعالم "بوتيرو" إلى موت وهدوء .. إنه الكابوس ..إن الحياة الآن هادئة ومسالمة .. لكنها مشلولة وناعسة.. وقد ترهلت الأجسام وانتفخت .. وأصبحت راضية لطيفة .. وهذا القلق والانزعاج هو السبب والأصل في رؤية بوتيرو للعالم ..
وعملياً فإن "بوتيرو"رجل مهذب جداً ولطيف بين فناني القرن العشرين .. وإذا كان لديه قلق وانزعاج وتمرد ونقد للآخرين كما طرح "ألبرتو مورافيا" فإنه كتوم جداً في طريقة تعبيره عن ذلك .. وهو يكرر دائماً ولايمل في شرحه بأن أعماله هي نتيجة رغبة كبيرة في البحث عن الأشكال والألوان والتعبير عنها جمالياً .. وأنه فقط يريد أن يرسم شيئاً جميلاً .. والجمال بالنسبة له يعني إتقان الشكل والتشكيل والتأليف المناسب وأيضاً اللون والحرفية .
ويقول أحد النقاد عن أعماله : إن الجمال يأتي من خلال تناغم مجموع المكونات .. وعندما يكون التشكيل كله متوازناً ومتوازياً . والعامل الحاسم في أعماله ليس عبارات معينة يريد أن يقولها .. وإنما يتمثل ذلك من خلال الخطوط التشكيلية الأفقية والعامودية والمحورية ، وأيضاً الخطوط الأخرى الحرة التي يضيفها للوحة في النهاية مثل غصن أو خيط من اللؤلؤ أو أفعى . وعلى الرغم من أن التشكيل يبدأ من السكون والشكل الجامد فإن الحركة تتجه نحو المركز وتعبر عن الوفرة .
ويقول ناقد آخر : لايوجد ظلال في لوحاته .. لأن الظلال تلوث اللون .. وإن الأشكال في لوحاته تشع دائماً مثل شمس الصباح الباكر عندما تكون الظلال في أدنى مستوياتها . والنور لاينبع من مصدر خارجي ولكن الأشياء تشع من خلال ألوانها ..
إن "بوتيرو" معجب دائماً بالسكون في الفن .. ويعطيه ذلك الشعور باللانهائية والأبدية .. ولاسيما في المنحوتات الفرعونية . وعلى الرغم من أن لوحاته تمتلئ بمعاني سردية إلا أن الحركة فيها متجمدة ..وهذا ينتج عن تقديس اللحظة وتثبيتها في علاقة الأشخاص مع ماحولهم من فضاء، حيث يظهرون أكبر من أن يكونوا قادرين على الحركة ..ليس لأن جلودهم مشدودة حول أجسامهم الضخمة، بل لأن الجدران المقيدة لهم تحاصرهم ..
وأخيراً .. لابد من القول بأن النظرة الفاحصة للوحات "بوتيرو" يمكنها أن تكتشف عدة أمور قد لاتبدو واضحة من النظرة الأولى .. والعناصر الجمالية والحرفية متميزة في دقتها وانسجامها ..وتبقى المعاني التي يمكن قراءتها على عدة مستويات .. وقد تمت الإشارة إلى بعضها فيما سبق طرحه .. ونؤكد هنا على عدة نقاط .. تمجيد الجسد الحي وتضخيمه احتفالاً به ..تمجيد السكون ولحظات الفرح والمتعة ..وأيضاَ في الجانب المعاكس .. نزعة تمردية نقدية لاذعة وساخرة من البشر ومن الجسد البشري !!
المراجع :
1-Fernando Botero, Mariana Hanstein,2003 Taschen, Germany
2- Washington post 2007 http://www.washingtonpost.com/wp-
dyn/content/article/2007/11/02/AR2007110200652.html?sub=AR
3- http://en.wikipedia.org/wiki/American_University_Museum
4- http://en.wikipedia.org/wiki/Fernando_Botero
Why does Botero Paint Fat People
ترجمة وإعداد الدكتور حسان المالح- استشاري الطب النفسي - دمشق - العيادة النفسية الاستشارية - أستاذ في الجامعة العربية الدولية (الأوربية)
مقدمة:
"فيرناندو بوتيرو" من مواليد عام 1932 كولومبيا ، توفي أبوه وعمره 4 سنوات ، أولى رسوماته للصحف المحلية في عمر 16 عاماً حيث تابع دراسته الثانوية وعرض لوحاته محلياً . ثم سافر إلى إسبانيا مع مجموعة من أصدقائه ودرس فيها الفن كما سافر إلى إيطاليا ثم فرنسا وعمق دراسته الفنية لفناني عصر النهضة في متحف اللوفر .
تتضمن أعماله طبيعة صامتة ومناظر طبيعية ، وتتميز لوحاته ومنحوتاته بالتضخيم والبدانة وأجسامه مستديرة شديدة الإمتلاء. يرسم رموز القوّة والسلطة في كل مكان، مثل الرؤساء والجنود والكهنة،وهناك لمسات مرح خاصة سواء في محاكاة لوحات شهيرة أو في تصوير رموز السلطة..
وهو يعتبر من أشهر الفنانين الكولومبيين في الوقت الحالي ، ويعتبر فناناً تجريدياً بشكل أو بآخر ..وتعرض أعماله ومنحوتاته في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان ، وهو يعيش في باريس منذ عام 2003 وله لوحات عديدة حول الحرب الأهلية وحول المافيا في مسقط رأسه التي كاد أن يقتل بسببها .وقد لقي المزيد من الاهتمام في عام 2005 بعد أن رسم أكثر من 180 لوحة وعرضها في أوروبا بعد أن قرأ عن أعمال التعذيب بعد فضيحة "سجن أبو غريب" في العراق ، كما عرضت هذه اللوحات في الجامعة الأمريكية في واشنطن عام 2007. خرج "بوتيرو" إلى العالم بصرخة ملونة ومدوية مرسومة على القماش لأجساد معذبة ومنزوعة الكرامة .
لماذا يرسم "بوتيرو" أشخاصاً بدينين ؟
يجيب "بوتيرو" دائماً : أنا لاأرسم أشخاصاً بدينين ..وإجابته هذه غامضة ومثيرة بالطبع ..لأن جميع الأجساد التي يرسمها ليست نحيلة أو هزيلة بل إنها جميعها أجساماً ممتلئة وبدينة وفي بعض الحالات بدينة جداً .ولابد من التأكيد أن "بوتيرو" لايرسم فقط أشخاصاً بدينين ولكن كل الأشياء الأخرى في لوحاته سمينة أيضاً ..
وهو يؤكد أن التضخيم في لوحاته ينبع من حسه الجمالي وأن ذلك نوع من الأسلوب الذي يعجبه ويتبناه .
إن لوحات "بوتيرو" ليست واقعية .. وهي تتوجه نحو الواقع ولكن لاتصوره حرفياً ..إن كل شيء في لوحاته ضخم وذو حجم كبير .. الموز ، ضوء المصباح ، شجرة التمر ، الحيوانات ، وطبعاً الرجال والنساء ..
يهتم "بوتيرو" بتحويل أو تشويه الواقع كأسلوب لتحويل الواقع إلى فن .وهو يقول إن التشويه في الفن له تاريخه الطويل .. ومثلاً فإن "جيوتو" و"رفائيل" و"إلجريكو" و"بيكاسو" كلهم شوهوا الواقع والأشياء ليصنعوا شيئاً آخر منه .
وبالنسبة لجيوتو فقد ركز على مرونة الشكل وحوافه مما أعطى انطباعاً بوجود البعد الثالث في الشكل المسطح .أما "روبينز" فقد استعمل بدوره حساسية الكتل اللحمية ليقدم روعة الإيمان في لوحاته .. وبشكل مخالف تماماً لصوفية "إلجريكو"الذي اعتمد على تطويل الأجسام وثنيها باتجاه الأعلى كأنها تسعى إلى السماء وقد عبر بذلك عن نزعته الدينية الإسبانية .وأما بالنسبة لألبرتو جياكوميتي في القرن العشرين فقد عبرت أشكاله النحيلة الدقيقة عن فلسفته الوجودية بشكل واضح .
إن التضخيم الثابت والشامل المتكرر كأسلوب فني كما ذكر سابقاً هو أسلوب معروف .. ولكن بالنسبة لبوتيرو فقد اعتمد التشويه كقاعدة أساسية في فنه وحولها إلى أسلوب خاص .إن التشويه الذي لايخدم غرضاً آخر يمكن اعتباره أسلوباً شيطانياً أو أنه نوع من الكاريكاتير.. وكلا الحالين لاينطبقان على "بوتيرو" .. وعلى العكس فإن التشويهات التي يصنعها تنبع من الرغبة في زيادة الطبيعة الحسية للوحاته .
وهو يقول: "من المهم معرفة مصدر اللذة التي نحصل عليها عندما نشاهد لوحة فنية .. بالنسبة لي إنها لذة الحياة والوجود مع اللذة الحسية للأشكال ..وهكذا فإن المشكلة بالنسبة لي كيفية خلق هذه اللذة الحسية للأشكال".
إن استعمال الأحجام الضخمة في الفن يعود إلى القيم الإبداعية التي تعتمدها الأعمال الكلاسيكية حيث كان بوتيرو معجباً بالمعلمين الأوائل الإيطاليين إضافة لإعجابه بالفن اللاتيني الذي يعتمد على تمجيد عظمة الله وأيضاً عظمة الحياة نفسها .
إن تناول "بوتيرو" بأسلوبه التضخيمي لأي موضوع يجعل هذا الموضوع يفقد خشونته ووحشيته وتطرفه .. فالمنازل في لوحاته لم تعد خانقة ، وصراع الثيران فقد قسوته ، والمرأة التي تطلي أظافرها بالطلاء الأحمر لم تعد سخيفة ، وحتى الحب فقد كونه مثيراً أو شهوانياً.
إن الأحجام الكبيرة التي يستعملها هي العصا السحرية التي يحول من خلالها الحياة والعالم إلى واقع عائم غير واقعي ..إن الأحجام الكبيرة التي يستعملها تتحول ببساطة إلى أشكال بالونية خفيفة تكاد تطير ..
إن نقاد الفن العالميين لم يستطيعوا إلى الآن أن يكتشفوا أية فرضية صحيحة تكمن خلف أسلوبه في تشكيل لوحاته .. وساهم ذلك في عزلة أعماله عن الاتجاهات الفنية الشائعة في عصره. وربما ارتبط ذلك بتحفظ النقاد الأنجلو أمريكان على الجسد العدائي غير المثير الذي يصوره بوتيرو كما أشار إلى ذلك أحد كتاب "بيرو" الشهيرين وهو يتساءل هل تأكيد الحياة يعتبر سطحياً ؟ وهل المعاناة هي الضخمة والكبيرة فقط ؟
إن أعمال "بوتيرو" تكشف نفسها على أنها تقترب من حافة الهاوية ولكنها لاتغوص فيها . وإن أسلوب بوتيرو المتعمد في التضخيم والذي تمتد جذوره في تاريخ الفن والذي يمكننا أن نسميه أسلوباً متميزاً هو الذي يفرق "بوتيرو" عن الرسامين المبتدئين السذج .
عندما بدأ بوتيرو بالرسم في كولومبيا فإن أسلوبه كان يتبع الأسلوب العالمي الحديث . ولكنه عندما بدأ بدراسة الفن الكلاسيكي اكتشف أسلوبه الذي يعبر عن روح القارة الأمريكية الجنوبية .
هل النحف يعبر عن إنسان المدينة ؟ وهل البدانة تعبر عن إنسان الريف ؟ والحقيقة أنه في العامية الشائعة في أميركا اللاتينية فإن البدانة والسمنة ترتبط بصفات إيجابية مثل الصحة الجيدة والغنى وحب الحياة . وأيضاً يرتبط الأشخاص البدينيون بالمزاج الجيد والمتع الحسية والخلق الحسن . ومن المؤكد أن "بوتيرو" قد استخدم الصفات المرتبطة بقارته مثل الاحتفالية والألوان الحارة ، والقيلولة والطعام الجيد .. وبالتالي فإن ردود فعل من يشاهد لوحاته تتسم غالباً بالسرور والاسترخاء .. ومما لاشك فيه أن هناك ارتباط بين أسلوبه وروحية التقاليد الكولومبية القديمة التي تتغذى بالأساطير والخرافات والتي تحب الرموز والاستعارات والتي تمتلك قيم التضخيم الإبداعية المتمسكة باللذّة المطلقة المضخمة والعفوية. إن التقشف هنا بعيد جداً ولامكان له .. " كل شيء متوفر ووافر " هو الشعار الذي يسود في أميركا اللاتينية .
ومن الممكن أن يكون هناك جوانب نفسية لاشعورية مرتبطة بأشكال بوتيرو الضخمة والأحجام المتدفقة التي يرسمها .. ومن المقبول أن هناك تناقضات يمكن اكتشافها في عالم بوتيرو الفني المولع بالترف..من القدور التي يتصاعد منها البخار إلى الفواكه الناضجة الممتعة ومخازن اللحوم الوفيرة ..
ويقول الكاتب الإيطالي الشهير "ألبرتو مورافيا" : أنه رأى في أجسام بوتيرو الممتلئة وأرجلها الثقيلة عوامل نفسية وليس نواح جمالية فقط ..إنها تعكس حساً مظلماً وألماً ومعاناة في هذا العالم المنتفخ..وفي الوقت نفسه تعكس شللاً وخدراً وفقداناً لحس الألم ..إن الثورات التي حدثت في أمريكا اللاتينية وإعلان الحرب على الفقر وعدم المساواة وعلى الديكتاتورية والعنف ..كل ذلك تم ترويضه وتحويله في لوحات وعالم "بوتيرو" إلى موت وهدوء .. إنه الكابوس ..إن الحياة الآن هادئة ومسالمة .. لكنها مشلولة وناعسة.. وقد ترهلت الأجسام وانتفخت .. وأصبحت راضية لطيفة .. وهذا القلق والانزعاج هو السبب والأصل في رؤية بوتيرو للعالم ..
وعملياً فإن "بوتيرو"رجل مهذب جداً ولطيف بين فناني القرن العشرين .. وإذا كان لديه قلق وانزعاج وتمرد ونقد للآخرين كما طرح "ألبرتو مورافيا" فإنه كتوم جداً في طريقة تعبيره عن ذلك .. وهو يكرر دائماً ولايمل في شرحه بأن أعماله هي نتيجة رغبة كبيرة في البحث عن الأشكال والألوان والتعبير عنها جمالياً .. وأنه فقط يريد أن يرسم شيئاً جميلاً .. والجمال بالنسبة له يعني إتقان الشكل والتشكيل والتأليف المناسب وأيضاً اللون والحرفية .
ويقول أحد النقاد عن أعماله : إن الجمال يأتي من خلال تناغم مجموع المكونات .. وعندما يكون التشكيل كله متوازناً ومتوازياً . والعامل الحاسم في أعماله ليس عبارات معينة يريد أن يقولها .. وإنما يتمثل ذلك من خلال الخطوط التشكيلية الأفقية والعامودية والمحورية ، وأيضاً الخطوط الأخرى الحرة التي يضيفها للوحة في النهاية مثل غصن أو خيط من اللؤلؤ أو أفعى . وعلى الرغم من أن التشكيل يبدأ من السكون والشكل الجامد فإن الحركة تتجه نحو المركز وتعبر عن الوفرة .
ويقول ناقد آخر : لايوجد ظلال في لوحاته .. لأن الظلال تلوث اللون .. وإن الأشكال في لوحاته تشع دائماً مثل شمس الصباح الباكر عندما تكون الظلال في أدنى مستوياتها . والنور لاينبع من مصدر خارجي ولكن الأشياء تشع من خلال ألوانها ..
إن "بوتيرو" معجب دائماً بالسكون في الفن .. ويعطيه ذلك الشعور باللانهائية والأبدية .. ولاسيما في المنحوتات الفرعونية . وعلى الرغم من أن لوحاته تمتلئ بمعاني سردية إلا أن الحركة فيها متجمدة ..وهذا ينتج عن تقديس اللحظة وتثبيتها في علاقة الأشخاص مع ماحولهم من فضاء، حيث يظهرون أكبر من أن يكونوا قادرين على الحركة ..ليس لأن جلودهم مشدودة حول أجسامهم الضخمة، بل لأن الجدران المقيدة لهم تحاصرهم ..
وأخيراً .. لابد من القول بأن النظرة الفاحصة للوحات "بوتيرو" يمكنها أن تكتشف عدة أمور قد لاتبدو واضحة من النظرة الأولى .. والعناصر الجمالية والحرفية متميزة في دقتها وانسجامها ..وتبقى المعاني التي يمكن قراءتها على عدة مستويات .. وقد تمت الإشارة إلى بعضها فيما سبق طرحه .. ونؤكد هنا على عدة نقاط .. تمجيد الجسد الحي وتضخيمه احتفالاً به ..تمجيد السكون ولحظات الفرح والمتعة ..وأيضاَ في الجانب المعاكس .. نزعة تمردية نقدية لاذعة وساخرة من البشر ومن الجسد البشري !!
المراجع :
1-Fernando Botero, Mariana Hanstein,2003 Taschen, Germany
2- Washington post 2007 http://www.washingtonpost.com/wp-
dyn/content/article/2007/11/02/AR2007110200652.html?sub=AR
3- http://en.wikipedia.org/wiki/American_University_Museum
4- http://en.wikipedia.org/wiki/Fernando_Botero
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق