فرويد لم يمت ..!!
لقد ذهبت كنبة التحليل النفسي .. ولكن ثقافة الجلسات النفسية باقية في كل مكان .. والعلم يقوم بالنظر مجدداً في نظرياته
Newsweek Magazine 17/3/2006
ترجمة وإعداد الدكتور حسان المالح - استشاري الطب النفسي - دمشق - العيادة النفسية الاستشارية - شارع العابد - جوار المطعم الصحي- أستاذ محاضر في الجامعة العربية الأوربية AEU
- نظرة عامة :
نقف اليوم في لحظة حرجة من حضارتنا ..هناك أعداء لنا يضعون نزعاتهم التدميرية إلى جانب نزعاتنا .. ومصيرنا في أيدي قادة العالم الذين يتفاخرون بتجنب التأمل والتبصر ..
في برنامج أوبرا المعروف ولقاءاتها مع من يعانون ويتألمون .. كأن فرويد ينظر إلينا مقطب الحاجبين ويقول تظنون أن الأمر سيكون بهذه السهولة .. وتدفنون رؤوسكم في الآلات ، وتبتلعون قرص دواء ، وتعترفون بخفايا نفوسكم في برنامج تلفزيوني وتتوقعون الشفاء قبل نهايته وبدء الإعلانات .. ولكنكم لاتعرفون أصلاً ماهو مرضكم ..
في الحقيقة إن فرويد مازال يلاحقنا من خلال حياته وبعد مماته في لندن عام 1939 بعد خروجه من فيينا التي يحبها بسبب النازيين ..إنه صاحب نظرية في فهم العقل البشري ، اللاشعور وما يحتويه من ذكريات مؤلمة تحاول أن تظهر بين وقت وآخر وتهرب من مخبئها إلى الوعي والشعور عبر الأحلام وزلات اللسان والمرض النفسي . وهو الفيلسوف الذي أكد على أهمية تجارب الطفولة ، وليس على سيرة العرق أو العائلة ، في تكوين الشخصية .
وهو المعالج الذي ابتكر طريقة محددة في العلاج وهي التحليل النفسي ، والتي تقوم على أن مرضاً محدداً يمكن له أن يشفى بطريقة قديمة معروفة منذ فجر التاريخ ، وهي الكلام ..
الكلام .. وليس الدعاء أو تقديم القرابين أو طرد الأرواح الشريرة ، ليس بالأدوية أو الجراحة أو تغيير الطعام ، ولكن باستعدادة الذكريات والتأمل والتبصر ومن خلال وجود معالج محترف يصغي باهتمام .
إنها فكرة مغايرة تماماً للمزاج التكنولوجي التقني ، ولكن كميات البروزاك الهائلة التي توصف سنوياً لم تستطع أن تدفنها ..
والحقيقة أنه لايوجد أعداد كبيرة من المرضى لايزالون يبحثون عن علاج بالتحليل النفسي أربعة أيام في الأسبوع الواحد .. ولكن هناك انتشار واسع لأنواع عديدة من أنواع العلاج بالكلام مثل التحليل بطريقة يونغ أو أدلر ، والعلاج المعرفي السلوكي ، والعلاج النفسي قصير الأمد.. وكل ذلك يشهد على قوة استمرار فكرة فرويد في العلاج .
وقد استطاع فرويد أن يشغل ثقافتنا منذ مئة عام .. وبدونه كيف يمكن للناس في حفلات العشاء أن يشرحوا إصرار الابن الأكبر لجورج بوش على إسقاط صدام حسين ( وقد كان فرويد نفسه سباقاً في تحليله لشخصية نابليون ، وأن تنافسه مع أخيه الأكبر "جوزيف" كان محركاً أساسياً في حياته .. فقد أغرم بفتاة اسمها "جوزيفين" ، وكذلك مشى على خطوات شخصية "جوزيف" المذكور في الكتاب المقدس كي يجتاح مصر ) .
في الولايات المتحدة الأمريكية يؤخذ فرويد جدياً على أنه قامة أدبية وفكرية أكثر منها قامة علمية .. على الأقل خارج مؤسسات ومعاهد التحليل النفسي التي تدرب على التحليل النفسي وعددها حوالي أربعين .
وفي السنة الماضية قامت مجلة نيوزويك بضم فرويد إلى ماركس على أنهما فيلسوفان جاء زمانهما ثم انتهى .. وذلك مقابل استمرارية مناسبة أفكار داروين لزمننا الحالي ..
والسؤال المطروح الآن بمناسبة ذكرى 150 سنة على ولادته ..هل لايزال فرويد ميتاً ؟ وإذا كان الجواب لا ماالذي يبقيه حياً ؟
وإذا كتبت اسم فرويد في أي محرك بحث في الانترنت ستجد كثيراً من الكتابات التي تناقض أفكاره وتحط منها .. وذلك منذ أن طرح أفكاره في القرن التاسع عشر .. وكونه مخطئاً في أفكاره لايفسر استمراريتها أبداً .. والحقيقة أن فكرة اللاشعور نفسها فكرة مخيفة .. وهي تشكل لنا جرحاً نرجسياً عندما نعلم بأننا نتحرك من خلال قوى داخلية لاشعورية لانستطيع ضبطها.
ومقاومة أفكار فرويد بدأت من الطبقة البورجوازية التي انزعجت كثيراً من فكرة أن الأطفال لديهم خيالات جنسية .. وهذه الفكرة لايوافق عليها 76 شخص بالغ في امريكا من أصل 89 شخص وفقاً لإحدى الإحصائيات ..
وليست الثقافة الغربية فقط التي انزعجت من فضائح أفكار فرويد لها ..والثقافات الأخرى أيضاً اعتبرت أنه حطم الأخلاق !!
ومعارضة أفكار فرويد جاءت أيضاً من الحركة النسائية العالمية التي ترفض فكرة أن النساء يحسدن قضيب الرجل .. وفكرته عن المرأة وتطورها الجنسي بأنها رجل غير كامل تعتبر خطأ واضحاً في زمننا الحالي وتؤدي إلى استقالة اتباعه من مناصبهم الجامعية .
وربما وصلت أفكاره لأقل تقدير لها في بدايات التسعينات من القرن الماضي حيث شاعت أحاديث الإيذاء الجنسي للأطفال من قبل ذوييهم في مختلف محطات التلفزة وأنها مشكلة واقعية قائمة .. بينما كانت نظرة فرويد للموضوع نفسه في بداية أفكاره أن الإيذاء الجنسي قد حدث فعلاً وأنه يساهم في نشوء الاضطراب النفسي فيما بعد ، ولكنه في كتاباته التالية وبعد المعارضة الشديدة من المجتمع عدل نظريته وأن هؤلاء الأطفال قد تخيلوا الإيذاء وأنه لم يقع فعلاً .. وهذا ليس انتصاراً لأفكار فرويد لأنه تراجع عن فكرة حدوث الإيذاء الفعلي تماماً بينما الواقع يشهد بحدوثه .
ويتنوع النقد لأفكار مثل عالمية عقدة أوديب وأنها ليست كذلك وربما ترتبط بثقافة وتكوين اجتماعي محدد، وكذلك السلوك الجنسي عند الأطفال وأنه غير موجود ..
ويؤكد البعض على أن أهمية فرويد ليست في تفاصيل وأفكار يمكن أن تكون خاطئة أو غير دقيقة .. بل في فكرة أساسية قوامها " أن حياة الإنسان قائمة على عقد وصراعات " وأن هذه العقد مخبأة ومخفية لأنها تستمد قوتها من الرغبات والغرائز .. وأن تحديد هذه العقد والصراعات ومن ثم حلها أو السير في حلولها بعد أن تظهر في الوعي عبر آليات رمزية متنوعة ، هو مايقوم به التحليل وينجح فيه . وكل ماعدا ذلك قابل للنقاش .. وكثير من مؤيدي فرويد لايوافقون على تفاصيل عديدة بل يؤكدون على الفكرة الأساسية السابقة .
وقد ساهم فرويد بابتكار طريقة جديدة في التفكير على الرغم من أخطائه هنا وهناك .. وهي أننا يمكننا أن نجد معان عميقة ودوافع خاصة في قضايا ومشكلات الحب والعمل وغير ذلك.
وتدل الإحصائيات على أن 20 % من الأمريكيين البالغين قد تلقوا شكلاً ما من العلاج النفسي أو الاستشارة النفسية ، وان 4% منهم هم حالياً تحت العلاج .
ويبدو أن الأدوية التي تستطيع تعديل أداء الوصلات العصبية في الدماغ ستجعل التحليل النفسي غير مناسب في عدد من الحالات المرضية ..!!
والحقيقة أن السبب الرئيسي في انحدار التحليل النفسي هو امتناع شركات التأمين عن تسديد فاتورة علاج مفتوح المدة إذا تجاوزت الفاتورة 2000 دولار بالشهر . وقد كان التحليل النفسي سابقاً مرادفاً ورمزاً لأهمية الفرد وعلامة على ثقافته .. وقد تبدل ذلك إلى الجراحة التجميلية في زمننا الحالي . ولكنه لايزال ترفاً قيماً لمن يستطيع أن يصرف الوقت والمال كي " يعرف نفسه " .
وهناك أشخاص لايستجيبون للأدوية أو لعلاج نفسي قصير ، وهؤلاء الأشخاص يريدون من يصغي إليهم ويفهمهم وهم يرغبون في البحث في دواخلهم وأعماقهم وأن يفهموا أنفسهم بشكل أعمق ..
ولعل البحث في الرموز ودلالاتها وكذلك الكلمات وعلاقاتها المتشابكة في الأدب وفي الحياة اليومية ، من الأمور المثيرة والهامة والمدهشة التي يقدمها التحليل النفسي ..
ولابد من القول بأن التحليل النفسي مرتبط بالحضارة الأوربية بشكل خاص .. وكتاب فرويد عن " قلق الحضارة " قبل مماته يؤكد فيه أن الإنسان لابد له من التضحية بغرائزه الجنسية والعدوانية بما يضمن أمن المجتمع المتحضر وراحته .ولكن تلك المبادلة ليست سهلة أو ميسرة .. لأن هذه الغرائز قوية وعنيفة ولأن كبتها يولد صراعات لاشعورية وعقد متنوعة ،وهذا مالايمكن شفاؤه لأنه جزء من الحالة الإنسانية نفسها .
وفي بداية التسعينات من القرن الماضي انخفضت شعبية التحليل النفسي بسبب التفاؤل الذي رافق نهاية الحرب الباردة حيث تفكك الإتحاد السوفييتي وشاعت فكرة فوكوياما في كتابه " نهاية التاريخ " بانتصار الفكر الليبرالي الديموقراطي في العالم ،ولكن هذه الفكرة سقطت مدوية في أحداث إيلول 2001 .
وعلى أية حال فإن نهاية التاريخ كما طرحها فوكوياما كانت أمنية جريئة تؤكد على انتهاء الصراع البشري .. ويبدو أن ما يمكن لفرويد أن يقوله من خلال تحليلاته النفسية الفكرية في هذا السياق سيكون هاماً ومفيداً .. وهو أن التاريخ لن ينتهي لأنه الكائنات البشرية تصنعه ..
- العقل من الوجهة العضوية النفسية :
يقول الدكتور إريك كندل أستاذ الطب النفسي في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة المريكية وهو من أنصار دمج العلوم البيولوجية بالنفسية وحائز على جائزة نوبل لأبحاثه حول التعلم والذاكرة ، إن فرويد واحد من المفكرين العظماء في القرن العشرين وقد قدم لنا أفكاراً هامة وعميقة ..وأن المشكلة لاتكمن في فرويد نفسه بل في الأجيال التي تلته والتي لم تحاول أن تطور علماً قائماً على الأسس العضوية .. وأن التحليل النفسي كطريقة علاجية أصبحت أقل انتشاراً بسبب الوقت الذي تستغرقه والكلفة المادية وأيضاً فإن الثقة بنتائجها العلاجية أصبحت موضع جدل ..ولابد لأنصار التحليل النفسي أن يوضحوا في أبحاثهم حول نوعية المرضى والحالات التي يمكن لها أن تستفيد من التحليل النفسي ، وكذلك تحديد العوامل التي تساهم في الشفاء .. ولابد للأبحاث التي تجرى على جميع أنواع العلاج النفسي التحليلي وغيره من أن توضح تفاصيل التأثيرات العضوية الإيجابية التي تؤدي إليها العلاجات النفسية مثلها في ذلك العلاجات الدوائية . وأعتقد أن هذا يمكن له أن يحدث خلال الخمسة عشرة سنة القادمة ..!!
ولابد من الإشارة إلى أن فرويد نفسه قبل أن يطرح أفكاره عن التحليل النفسي قد قام بتحارب عديدة حول تشريح جذع الدماغ وحول التفاصيل العضوية للدماغ البشري وحول فقدان اللغة بسبب الإصابة الدماغية العضوية ، وغير ذلك .
وربما لو كان فرويد حياً الآن لباشر عمله في المختبرات ومراكز الأبحاث العضوية للدماغ .. وفي الوقت الحالي يمكن للأجهزة الحديثة في التصوير الدماغي التفاعلي أن تراقب مايجري من عمليات عقلية مباشرة مثل الأحلام ومن أية مناطق تنشأ من الدماغ ..ويمكننا أيضاً أن نعرف التفاصيل العضوية لعمليات" النسيان الإرادي" وكيف تجري في الدماغ ضمن مناطق محددة لها وظائفها .. وبالطبع فالنسيان الإرادي يشبه إلى حد ما مايجري بعد الصدمات النفسية المتنوعة وما يعرف باضطراب الشدة عقب الصدمة .. وهناك دراسات حول أدوية يمكن تطويرها تهدف إلى تعديل مثل هذه الذكريات المؤلمة أو إزالتها.
ومن ناحية أخرى هناك دراسات متنوعة حديثة حول مختلف التفاصيل التي طرحها التحليل النفسي وإعادة للنظر فيها من وجهة نظر حديثة عضوية . كما أن هناك أبحاثاً حول فاعلية التحليل النفسي كعلاج ضمن دراسات مستقبلية وعينات ضابطة ومعايير محددة للشفاء أو التحسن ، لمقارنة نتائج العلاج التحليلي مع عينات من المرضى تخضع لأساليب علاجية نفسية أخرى ، تجري في مراكز متنوعة .
تم النشر في 22/5/2007
لقد ذهبت كنبة التحليل النفسي .. ولكن ثقافة الجلسات النفسية باقية في كل مكان .. والعلم يقوم بالنظر مجدداً في نظرياته
Newsweek Magazine 17/3/2006
ترجمة وإعداد الدكتور حسان المالح - استشاري الطب النفسي - دمشق - العيادة النفسية الاستشارية - شارع العابد - جوار المطعم الصحي- أستاذ محاضر في الجامعة العربية الأوربية AEU
- نظرة عامة :
نقف اليوم في لحظة حرجة من حضارتنا ..هناك أعداء لنا يضعون نزعاتهم التدميرية إلى جانب نزعاتنا .. ومصيرنا في أيدي قادة العالم الذين يتفاخرون بتجنب التأمل والتبصر ..
في برنامج أوبرا المعروف ولقاءاتها مع من يعانون ويتألمون .. كأن فرويد ينظر إلينا مقطب الحاجبين ويقول تظنون أن الأمر سيكون بهذه السهولة .. وتدفنون رؤوسكم في الآلات ، وتبتلعون قرص دواء ، وتعترفون بخفايا نفوسكم في برنامج تلفزيوني وتتوقعون الشفاء قبل نهايته وبدء الإعلانات .. ولكنكم لاتعرفون أصلاً ماهو مرضكم ..
في الحقيقة إن فرويد مازال يلاحقنا من خلال حياته وبعد مماته في لندن عام 1939 بعد خروجه من فيينا التي يحبها بسبب النازيين ..إنه صاحب نظرية في فهم العقل البشري ، اللاشعور وما يحتويه من ذكريات مؤلمة تحاول أن تظهر بين وقت وآخر وتهرب من مخبئها إلى الوعي والشعور عبر الأحلام وزلات اللسان والمرض النفسي . وهو الفيلسوف الذي أكد على أهمية تجارب الطفولة ، وليس على سيرة العرق أو العائلة ، في تكوين الشخصية .
وهو المعالج الذي ابتكر طريقة محددة في العلاج وهي التحليل النفسي ، والتي تقوم على أن مرضاً محدداً يمكن له أن يشفى بطريقة قديمة معروفة منذ فجر التاريخ ، وهي الكلام ..
الكلام .. وليس الدعاء أو تقديم القرابين أو طرد الأرواح الشريرة ، ليس بالأدوية أو الجراحة أو تغيير الطعام ، ولكن باستعدادة الذكريات والتأمل والتبصر ومن خلال وجود معالج محترف يصغي باهتمام .
إنها فكرة مغايرة تماماً للمزاج التكنولوجي التقني ، ولكن كميات البروزاك الهائلة التي توصف سنوياً لم تستطع أن تدفنها ..
والحقيقة أنه لايوجد أعداد كبيرة من المرضى لايزالون يبحثون عن علاج بالتحليل النفسي أربعة أيام في الأسبوع الواحد .. ولكن هناك انتشار واسع لأنواع عديدة من أنواع العلاج بالكلام مثل التحليل بطريقة يونغ أو أدلر ، والعلاج المعرفي السلوكي ، والعلاج النفسي قصير الأمد.. وكل ذلك يشهد على قوة استمرار فكرة فرويد في العلاج .
وقد استطاع فرويد أن يشغل ثقافتنا منذ مئة عام .. وبدونه كيف يمكن للناس في حفلات العشاء أن يشرحوا إصرار الابن الأكبر لجورج بوش على إسقاط صدام حسين ( وقد كان فرويد نفسه سباقاً في تحليله لشخصية نابليون ، وأن تنافسه مع أخيه الأكبر "جوزيف" كان محركاً أساسياً في حياته .. فقد أغرم بفتاة اسمها "جوزيفين" ، وكذلك مشى على خطوات شخصية "جوزيف" المذكور في الكتاب المقدس كي يجتاح مصر ) .
في الولايات المتحدة الأمريكية يؤخذ فرويد جدياً على أنه قامة أدبية وفكرية أكثر منها قامة علمية .. على الأقل خارج مؤسسات ومعاهد التحليل النفسي التي تدرب على التحليل النفسي وعددها حوالي أربعين .
وفي السنة الماضية قامت مجلة نيوزويك بضم فرويد إلى ماركس على أنهما فيلسوفان جاء زمانهما ثم انتهى .. وذلك مقابل استمرارية مناسبة أفكار داروين لزمننا الحالي ..
والسؤال المطروح الآن بمناسبة ذكرى 150 سنة على ولادته ..هل لايزال فرويد ميتاً ؟ وإذا كان الجواب لا ماالذي يبقيه حياً ؟
وإذا كتبت اسم فرويد في أي محرك بحث في الانترنت ستجد كثيراً من الكتابات التي تناقض أفكاره وتحط منها .. وذلك منذ أن طرح أفكاره في القرن التاسع عشر .. وكونه مخطئاً في أفكاره لايفسر استمراريتها أبداً .. والحقيقة أن فكرة اللاشعور نفسها فكرة مخيفة .. وهي تشكل لنا جرحاً نرجسياً عندما نعلم بأننا نتحرك من خلال قوى داخلية لاشعورية لانستطيع ضبطها.
ومقاومة أفكار فرويد بدأت من الطبقة البورجوازية التي انزعجت كثيراً من فكرة أن الأطفال لديهم خيالات جنسية .. وهذه الفكرة لايوافق عليها 76 شخص بالغ في امريكا من أصل 89 شخص وفقاً لإحدى الإحصائيات ..
وليست الثقافة الغربية فقط التي انزعجت من فضائح أفكار فرويد لها ..والثقافات الأخرى أيضاً اعتبرت أنه حطم الأخلاق !!
ومعارضة أفكار فرويد جاءت أيضاً من الحركة النسائية العالمية التي ترفض فكرة أن النساء يحسدن قضيب الرجل .. وفكرته عن المرأة وتطورها الجنسي بأنها رجل غير كامل تعتبر خطأ واضحاً في زمننا الحالي وتؤدي إلى استقالة اتباعه من مناصبهم الجامعية .
وربما وصلت أفكاره لأقل تقدير لها في بدايات التسعينات من القرن الماضي حيث شاعت أحاديث الإيذاء الجنسي للأطفال من قبل ذوييهم في مختلف محطات التلفزة وأنها مشكلة واقعية قائمة .. بينما كانت نظرة فرويد للموضوع نفسه في بداية أفكاره أن الإيذاء الجنسي قد حدث فعلاً وأنه يساهم في نشوء الاضطراب النفسي فيما بعد ، ولكنه في كتاباته التالية وبعد المعارضة الشديدة من المجتمع عدل نظريته وأن هؤلاء الأطفال قد تخيلوا الإيذاء وأنه لم يقع فعلاً .. وهذا ليس انتصاراً لأفكار فرويد لأنه تراجع عن فكرة حدوث الإيذاء الفعلي تماماً بينما الواقع يشهد بحدوثه .
ويتنوع النقد لأفكار مثل عالمية عقدة أوديب وأنها ليست كذلك وربما ترتبط بثقافة وتكوين اجتماعي محدد، وكذلك السلوك الجنسي عند الأطفال وأنه غير موجود ..
ويؤكد البعض على أن أهمية فرويد ليست في تفاصيل وأفكار يمكن أن تكون خاطئة أو غير دقيقة .. بل في فكرة أساسية قوامها " أن حياة الإنسان قائمة على عقد وصراعات " وأن هذه العقد مخبأة ومخفية لأنها تستمد قوتها من الرغبات والغرائز .. وأن تحديد هذه العقد والصراعات ومن ثم حلها أو السير في حلولها بعد أن تظهر في الوعي عبر آليات رمزية متنوعة ، هو مايقوم به التحليل وينجح فيه . وكل ماعدا ذلك قابل للنقاش .. وكثير من مؤيدي فرويد لايوافقون على تفاصيل عديدة بل يؤكدون على الفكرة الأساسية السابقة .
وقد ساهم فرويد بابتكار طريقة جديدة في التفكير على الرغم من أخطائه هنا وهناك .. وهي أننا يمكننا أن نجد معان عميقة ودوافع خاصة في قضايا ومشكلات الحب والعمل وغير ذلك.
وتدل الإحصائيات على أن 20 % من الأمريكيين البالغين قد تلقوا شكلاً ما من العلاج النفسي أو الاستشارة النفسية ، وان 4% منهم هم حالياً تحت العلاج .
ويبدو أن الأدوية التي تستطيع تعديل أداء الوصلات العصبية في الدماغ ستجعل التحليل النفسي غير مناسب في عدد من الحالات المرضية ..!!
والحقيقة أن السبب الرئيسي في انحدار التحليل النفسي هو امتناع شركات التأمين عن تسديد فاتورة علاج مفتوح المدة إذا تجاوزت الفاتورة 2000 دولار بالشهر . وقد كان التحليل النفسي سابقاً مرادفاً ورمزاً لأهمية الفرد وعلامة على ثقافته .. وقد تبدل ذلك إلى الجراحة التجميلية في زمننا الحالي . ولكنه لايزال ترفاً قيماً لمن يستطيع أن يصرف الوقت والمال كي " يعرف نفسه " .
وهناك أشخاص لايستجيبون للأدوية أو لعلاج نفسي قصير ، وهؤلاء الأشخاص يريدون من يصغي إليهم ويفهمهم وهم يرغبون في البحث في دواخلهم وأعماقهم وأن يفهموا أنفسهم بشكل أعمق ..
ولعل البحث في الرموز ودلالاتها وكذلك الكلمات وعلاقاتها المتشابكة في الأدب وفي الحياة اليومية ، من الأمور المثيرة والهامة والمدهشة التي يقدمها التحليل النفسي ..
ولابد من القول بأن التحليل النفسي مرتبط بالحضارة الأوربية بشكل خاص .. وكتاب فرويد عن " قلق الحضارة " قبل مماته يؤكد فيه أن الإنسان لابد له من التضحية بغرائزه الجنسية والعدوانية بما يضمن أمن المجتمع المتحضر وراحته .ولكن تلك المبادلة ليست سهلة أو ميسرة .. لأن هذه الغرائز قوية وعنيفة ولأن كبتها يولد صراعات لاشعورية وعقد متنوعة ،وهذا مالايمكن شفاؤه لأنه جزء من الحالة الإنسانية نفسها .
وفي بداية التسعينات من القرن الماضي انخفضت شعبية التحليل النفسي بسبب التفاؤل الذي رافق نهاية الحرب الباردة حيث تفكك الإتحاد السوفييتي وشاعت فكرة فوكوياما في كتابه " نهاية التاريخ " بانتصار الفكر الليبرالي الديموقراطي في العالم ،ولكن هذه الفكرة سقطت مدوية في أحداث إيلول 2001 .
وعلى أية حال فإن نهاية التاريخ كما طرحها فوكوياما كانت أمنية جريئة تؤكد على انتهاء الصراع البشري .. ويبدو أن ما يمكن لفرويد أن يقوله من خلال تحليلاته النفسية الفكرية في هذا السياق سيكون هاماً ومفيداً .. وهو أن التاريخ لن ينتهي لأنه الكائنات البشرية تصنعه ..
- العقل من الوجهة العضوية النفسية :
يقول الدكتور إريك كندل أستاذ الطب النفسي في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة المريكية وهو من أنصار دمج العلوم البيولوجية بالنفسية وحائز على جائزة نوبل لأبحاثه حول التعلم والذاكرة ، إن فرويد واحد من المفكرين العظماء في القرن العشرين وقد قدم لنا أفكاراً هامة وعميقة ..وأن المشكلة لاتكمن في فرويد نفسه بل في الأجيال التي تلته والتي لم تحاول أن تطور علماً قائماً على الأسس العضوية .. وأن التحليل النفسي كطريقة علاجية أصبحت أقل انتشاراً بسبب الوقت الذي تستغرقه والكلفة المادية وأيضاً فإن الثقة بنتائجها العلاجية أصبحت موضع جدل ..ولابد لأنصار التحليل النفسي أن يوضحوا في أبحاثهم حول نوعية المرضى والحالات التي يمكن لها أن تستفيد من التحليل النفسي ، وكذلك تحديد العوامل التي تساهم في الشفاء .. ولابد للأبحاث التي تجرى على جميع أنواع العلاج النفسي التحليلي وغيره من أن توضح تفاصيل التأثيرات العضوية الإيجابية التي تؤدي إليها العلاجات النفسية مثلها في ذلك العلاجات الدوائية . وأعتقد أن هذا يمكن له أن يحدث خلال الخمسة عشرة سنة القادمة ..!!
ولابد من الإشارة إلى أن فرويد نفسه قبل أن يطرح أفكاره عن التحليل النفسي قد قام بتحارب عديدة حول تشريح جذع الدماغ وحول التفاصيل العضوية للدماغ البشري وحول فقدان اللغة بسبب الإصابة الدماغية العضوية ، وغير ذلك .
وربما لو كان فرويد حياً الآن لباشر عمله في المختبرات ومراكز الأبحاث العضوية للدماغ .. وفي الوقت الحالي يمكن للأجهزة الحديثة في التصوير الدماغي التفاعلي أن تراقب مايجري من عمليات عقلية مباشرة مثل الأحلام ومن أية مناطق تنشأ من الدماغ ..ويمكننا أيضاً أن نعرف التفاصيل العضوية لعمليات" النسيان الإرادي" وكيف تجري في الدماغ ضمن مناطق محددة لها وظائفها .. وبالطبع فالنسيان الإرادي يشبه إلى حد ما مايجري بعد الصدمات النفسية المتنوعة وما يعرف باضطراب الشدة عقب الصدمة .. وهناك دراسات حول أدوية يمكن تطويرها تهدف إلى تعديل مثل هذه الذكريات المؤلمة أو إزالتها.
ومن ناحية أخرى هناك دراسات متنوعة حديثة حول مختلف التفاصيل التي طرحها التحليل النفسي وإعادة للنظر فيها من وجهة نظر حديثة عضوية . كما أن هناك أبحاثاً حول فاعلية التحليل النفسي كعلاج ضمن دراسات مستقبلية وعينات ضابطة ومعايير محددة للشفاء أو التحسن ، لمقارنة نتائج العلاج التحليلي مع عينات من المرضى تخضع لأساليب علاجية نفسية أخرى ، تجري في مراكز متنوعة .
تم النشر في 22/5/2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق