مفهوم "شبكة الحب" في علاج الصدمات العاطفية:
الدكتور حسان المالح استشاري الطب النفسي - أستاذ في الجامعة العربية الدولية - دمشق - 2322841
مقدمة:
تستعمل لغة المجاز في العلاج النفسي بأشكال متنوعة .. وذلك لما تحتويه من مدلولات لغوية ونظرية في تقريب المفاهيم المعقدة أو العميقة إضافة لفوائدها التطبيقية والعملية. ومن المصطلحات المعروفة "تركيز أو شحن الطاقة النفسية" Cathexis حيث اعتبر فرويد أن الطاقة الحيوية الجنسية Libido يتم توظيفها في موضوع معين كما في الأحلام حيث تكون أفكار الحلم مشحونة بكميات متنوعة من الانفعالات السلبية أو الإيجابية. وقد وصف فرويد الطاقة النفسية الجنسية بتعبيرات شبيهة بمصطلحات الفيزياء حيث اعتبر مثلاً أن إحباط الرغبات الجنسية أو منع الطاقات المشحونة يؤدي إلى تراكمها ومن ثم التعبير عنها بأشكال غير اعتيادية مثل النكوص والتثبت والاستمتاع بالإثارة الذاتية كبديل عن الآخر. كما استعمل فكرة الشحن المعاكس Anti cathexis ليوضح كيف يمكن للأنا أن تقاوم هذا النكوص مثل المحرك البخاري الذي تتحول فيه الطاقة من خلال وسائل الدفاع النفسية إلى التصعيد والتكوين المعاكس وغيره.
وبين فرويد أن انسحاب الشحن من الموضوع أو الآخر يترافق مع عملية الحداد والحزن والذي يعتبر أساس نظرية العلاقة مع الموضوع ( أو الآخر) Object relation theory التي طورتها ميلاني كلاين وآخرون.(1)
ومن المصطلحات الحديثة في علم النفس مصطلح Emotional investment والذي يعني تركيز الانفعالات على شخص معين وله تطبيقات وتفصيلات متنوعة وله تأثيره في العلاقة الجنسية والعلاقات الأبوية وغير ذلك .(2)
وفي العلاج المعرفي هناك افتراضات أساسية Basic assumptions وأفكار تلقائية Automatic thoughts وعمليات عقلية متحيزة مثل التضخيم والتعميم وغيرها.. وتتداخل وتتشابك الأفكار التلقائية مع الافتراضات الأساسية والعمليات العقلية ويجري في العلاج تحديد هذه الأفكار وعزلها وتعديلها تدريجياً بما يشبه إعادة تكوين الشبكة المعرفية الداخلية وإعادة برمجتها بشكل إيجابي ومفيد.((6
ومفهوم "شبكة الحب " وجدته سهلاً ومناسباً ومفيداً من خلال العمل النفسي العلاجي ..وهو تعبير مجازي يعني أنه في العلاقات العاطفية المتنوعة ينشأ تكوين نفسي خاص عند الشخص أساسه الحب والعطاء والتبادل والتوجه نحو الآخر والتعلق به والامتداد نحوه..وتتألف هذه الشبكة من خيوط وحبال متنوعة المقاسات والصفات ونسيجها مكون من الانفعالات والأفكار والتخيلات والأحلام التي يتم توظيفها من قبل الشخص نحو الآخر..وتزداد تفاصيل هذه الشبكة وقوتها وتعقيداتها من خلال الأحداث اليومية والذكريات المشتركة وهي تربطنا بالآخر وتربط الآخر بنا..
وفي حالات الفراق تعود هذه الشبكة إلى الداخل بعد أن كانت تستهدف الطرف الآخر.. حيث يصبح الشخص مشغولاً بذاته وخيالاته وآلامه. وبعد مدة تطول أو تقصر ووفقاً لتفاصيل كل قصة عاطفية تبدأ علاقة أخرى ويلقي الشخص شبكته على شخص آخر يوظف فيها ذاته وانفعالاته وأفكاره وأحلامه.
ولا بد من تعديلات إيجابية وعلاج وتجديد هذه الشبكة في تفاصيلها العاطفية والانفعالية والفكرية والسلوكية مما يؤدي إلى تجاوز الصدمة بشكل أفضل وإلى علاقة قادمة أكثر نجاحاً.
ويفيد فهم هذا التوصيف السابق وتطبيقه في تحليل وعلاج الصدمة العاطفية وفي المساعدة على تسريع عملية النسيان الإيجابية وعلى شفاء الجروح العاطفية المتنوعة.
ومن الناحية العملية عندما تنتهي العلاقة بسبب أحد الطرفين أو كليهما أو بسبب الظروف ، فإن هذه "الشبكة" تبقى تربطنا بالآخر وتشدنا إليه في معظم الحالات مما يجعل حياة الشخص معطلة ومشتتة كما أنها تساهم في أطالة فترة الشفاء من الإحباط العاطفي أو صدمة الفراق والفقدان وتزيد من مشكلات الجرح العاطفي بدلأ عن شفائها.. لذلك فإنه من المفيد سحب هذه "الشبكة" من الآخر وقطعها وتعديلها علاجياً.
الصدمات العاطفية:
من المعروف أن انتهاء العلاقة العاطفية والفراق يؤدي عموماً إلى صدمة نفسية تتمثل بثلاث مراحل متداخلة .. وهي مرحلة الإنكار وعدم التصديق ثم الحزن ثم التقبل والتكيف.(7)
وفي المرحلة الأولى نجد عدم تصديق الفراق وأفكاراً عن عودة الحبيب المفقود بأشكال متعددة وأن العلاقة لا تزال قائمة وأن ما حدث هو سوء تفاهم عابر وغير ذلك..وبعضهم يحاول الاتصال بالحبيب بعدة أشكال ولمرات عديدة بشكل مباشر أو من خلال الآخرين كي يتحدث معه ويحاوره ويقنعه بالبقاء.
ويلي ذلك مرحلة من الحزن والأسى والألم والشعور بالفقدان والتشاؤم واليأس مع أعراض القلق والتوتر والعصبية والعزلة ونقص التركيز والطاقة واضطراب النوم وأعراض نفسية جسمية متنوعة.. إضافة لتذكر المحبوب ومحاولة الاتصال به لسماع صوته فقط أو لرؤيته من بعيد.وأيضاً يحدث تذكر واستعادة للأحداث الأخيرة والأحداث الماضية ومختلف أنواع الذكريات المرتبطة بالحبيب المفقود، ويكثر الحوار الذاتي السلبي وتظهر أفكار تلقائية عن ضعف الذات ونقائصها وأخطائها،وأفكار سلبية متنوعة عن الذات والحاضر والمستقبل. ويكثر تصغير الذات ولومها وتضخيم الآخر وتبرئته.
وبعضهم يهمل نفسه ومظهره .. وبعضهم الآخر تتأثر دراسته أو عمله بشكل سلبي ويمكن له أن يتوقف عن دراسته أو أن يستقيل من عمله. وفي حالات أخرى مرضية يمكن أن يصاب الشخص بنوبة اكتئابية شديدة أو يحاول الانتحار وغير ذلك.
وفي المرحلة الأخيرة يحدث التقبل والتكيف وتصبح الرؤيا أكثر واقعية وتتعدل بعض الافتراضات والأفكار الخاطئة عن الذات وعن الآخر.. وربما يحدث تبني أفكار جديدة من خلال مراجعات أو نصائح أو معلومات حصل عليها الشخص عن الآخر تساعده على قبول فكرة الانفصال وأن الآخر لا يناسبه أو أنه لم يعد مناسباً له بعدما انكشف على حقيقته وأنه كان كاذباً أو محتالاً أو ممثلاً .. وتبدأ الصورة الخيالية الإيجابية عنه بالذبول والتحول إلى صورة أكثر واقعية.
وصدمة الفراق لا تعتبر مرضاً بل هي رد فعل نفسي اعتيادي مفهوم ومؤقت بسبب فقدان الحبيب ويمكن أن تستمر أسابيع أو شهوراً .. وكثير من الأشخاص يمرون بهذه الصدمات ويتجاوزونها بشكل مقبول ودون عون اختصاصي..وبعضهم يكتفي بنصائح الأهل والأصدقاء وبعضهم يستشير الكتب ومصادر المعلومات أو الخبراء. وفي الحالات المرضية يمكن أن تكون ردود الفعل شديدة ومعطلة ،أو أنها تستمر فترات طويلة.
ومن المعروف أن الجروح العاطفية هي من المشكلات الشائعة لدى الجنسين في مختلف المراحل العمرية وتتنوع أشكالها ..ومنها صدمة الخيانة العاطفية والزوجية وهروب الحبيب وابتعاده والهجر والطلاق والانفصال وغير ذلك.
وتختلف آثار الصدمة ونتائجها وفقاً لتفاصيل الصدمة وملامحها ووفقاً لشخصية الإنسان وظروفه وتكوينه النفسي والشخصي واستعداداته وقدراته ومهاراته وتجاربه السابقة وثقته بنفسه ..وكلما كان الشخص أكثر ثقة بنفسه كلما ازدادت قدرته على تجاوز الصعاب والصدمات . وترتبط ردود الفعل أيضاً بظروف العلاقة نفسها وطريقة انتهائها. والقاعدة العامة أن النهاية المفاجئة غير المتوقعة تحدث أثراً سلبياً أكبر وأقوى من النهاية المتوقعة أو المفهومة. ويحتاج الإنسان إلى تعقيل الصدمة وفهمها وشرح أسبابها وظروفها .. والغموض وعدم الوضوح في أسباب انتهاء العلاقة يخلق قلقاً شديداً غير مفهوم ولا يسهل تعقيله وهضمه وبالتالي لا يسهل التكيف معه وتجاوزه.
وعموماً يمكن للصدمات العاطفية أن تؤدي إلى الاكتئاب والحزن والألم النفسي الذي يستمر طويلاً ،كما تؤدي إلى مشكلات سلوكية وعقد نفسية مرتبطة بالجنس الآخر ،مثل رفض الجنس الآخر والابتعاد عنه وعدم الثقة به وأيضاً مواجهته وإيذائه والحقد عليه.
كما تؤدي إلى السلوك الإدماني والسلوك المضاد للمجتمع والسلوك الانتحاري ..وغير ذلك من الاضطرابات.(7)
ويتعرض جيل الشباب بشكل خاص إلى صدمات عاطفية متنوعة بعد فشل في العلاقة مع الجنس الآخر أو تعثر هذه العلاقة .. وبعضهم يعاني من آثارها فترة ثم يتجاوزها، وبعضهم تتطرف ردود فعله النفسية والسلوكية ويصاب باضطراب نفسي، وبعضهم الآخر يعتبر الصدمة تجربة مفيدة تعلمه دروس الحياة وتزيده خبرة ونضجاً وصلابة.
ويمكن اعتبار الصدمات العاطفية في هذه المرحلة أمراً شائعاً وربما تكون مرحلة ضرورية من النمو النفسي والعاطفي..لأن مرحلة الشباب نفسها تمتاز بحدة الانفعالات والاندفاعات العاطفية تجاه الجنس الآخر وهي تتميز أيضاً بتقلب العواطف وحب التجريب والاكتشاف،كما أن ضعف الخبرة في التعامل مع الجنس الآخر ومع الواقع العملي والظروف يجعل من الطبيعي حدوث علاقات عاطفية غير متناسبة مما ينتج عنها فراق وألم وصدمات.(3)
التعامل مع الصدمات العاطفية وعلاجها:
إن تجاوز الصدمات بشكل إيجابي مطلوب دائماً ..ويحتاج الإنسان إلى الدعم النفسي والمعنوي وإعادة ترتيب أفكاره وانفعالاته وعواطفه إضافة للتعبير عن آلامه وجروحه وغضبه وحزنه لمدة تطول أو تقصر إلى أن يتم تجاوز الصدمة بنسبة كافية تؤهله للاستمرار في حياته بشكل فعال وفتح صفحة جديدة مع نفسه والآخرين والحياة.
وهذه العملية ليست سهلة أو ميسرة وهي تستهلك كثيراً من طاقة الشخص النفسية والعقلية والبدنية وهي تحتاج إلى أسابيع عدة أو شهور وأحياناً إلى سنوات.
1- مما لاشك فيه أن الثقافة النفسية مفيدة في تفهم الإنسان لما يجري له من آلام ومعاناة ويساعده على احتواء ذلك والتخفيف منه والسيطرة عليه بشكل أو بآخر.. كما أن الثقافة العاطفية والاطلاع على مشكلات الحب وصدماته مفيد جداً في عملية تعديل التوازن النفسي والعقلي والفكري الذي يتعرض له المجروح والمصدوم.
وهناك كتابات وأقوال مفيدة ونصائح وأفكار واضاءات يمكن الاستفادة منها من الحكماء والأدباء والمثقفين والمربين وذوي الخبرات الشخصية من الأصدقاء والمعارف والأهل.
ومثلاً هناك فوائد متعددة في "كتاب نسيان دوت كوم" للأديبة أحلام مستغانمي حول نسيان الجروح العاطفية (وهو موجه للمرأة أساساً) ،ومنها النصائح التالية:
- يبقى أن العلاج المثالي لكل أوجاع القلب هو الضحك وعدم أخذ الذاكرة مأخذ الجد .
- لا تبكين على الطلل وعلى الحبيب إذا رحل
واقطع من الرحم الذي بك في المناسبة اتصل
سيان عندك فليكن من لم يصلك ومن وصل
من الوصايا المضادة لأبي نواس.
- السرير ليس مكاناً آمناً لإمرأة تنشد النسيان .. السرير كمين يقع فيه القلب النازف شوقاً المطعون عشقاً اعتقاداً منه أنه ملاذ آمن.. غادري سريرك حال استيقاظك بدل أن تجلسي إلى ذاكرتك في سرير .. لأنك هناك لا لتنسي من تحبين بل لتستعيديه لتنفردي به لتبكيه.
- من العدل ألا تبقي في قلبك أكثر من يوم من تركك باختياره، وألا تحزني عليه أكثر من بضعة أيام في أقصى الحالات .. كفى بربك حماقة.
- ليس ثمة نسيان جميل أو سريع ، لا أحد بإمكانه أن يهديك النسيان قبل وقته ، أو يبيعك إياه قبل أن يتفتح على أغصانه ..عليك أن تقتنيه بألمك وأرقك ودموعك..هذه هي العملة الوحيدة التي تتعامل بها الأحاسيس في مواجهة الفقدان الكبير.
- تذكري نحن لا ننسى إلا حين نريد ذلك حقاً .. كوني صادقة في إصرارك على النسيان.
(أنظر مقالة نقدية تفصيلية لي بعنوان نسيان الجروح العاطفية إضاءات وتحليلات لكتاب نسيان كوم للأديبة أحلام مستغانمي).(4
2- لا بد من التأكيد على أن الإرادة والتصميم والإصرار عامل أساسي في النسيان .. ويختلف الرجل والمرأة في قدراتهم على تحديد الأهداف وإصابتها وفي إصرارهم على الوصول إليها ..وربما كان الرجل أكثر إصراراً ويصيب الهدف بشكل أفضل .. وفي بعض الدراسات أنه ربما كان الرجل أقدر على النسيان وأن ذلك له علاقة بهرمون التستستيرون الذكري وتأثيراته في كف وتثبيط مناطق الدماغ المرتبطة بالذاكرة.
3- تتضمن عملية إعادة التوازن وتجاوز الصدمة قدرة الشخص على النسيان ..وقدرته على إعادة ترتيب عالمه الداخلي وشبكة حبه بما فيه تعديل الذكريات الأليمة المرتبطة بانفعالات شديدة سلبية مثل الغضب والحزن والأسى، وتعديل أفكار المرء عن نفسه وقيمتها وعن الفقدان والخسائر التي تعرض لها ..وعن الواقع المحيط به والمستقبل الذي يقترب منه.
ويفيد التعبير عن الانفعالات وتجارب الحياة بأشكال أدبية متنوعة مثل الخاطرة والقصة والرواية والشعر وغيرها .. ويعتبر ذلك أسلوباً علاجياً ناجحاً يعالج فيه المجروح جراحاته وقلقه بشكل يجعله أكثر توازناً وأكثر ثقة بنفسه. ونجد ذلك عند عموم الناس وهم يكتبون وينتجون كتابات متفاوتة في عمقها وقيمتها الفكرية والأدبية كما نجد ذلك عند الأدباء المحترفين.
ومن الناحية النفسية من المفيد تشجيع طرق التعبير الكتابية والأدبية لأنها تساهم في إعادة التوازن للذات المجروحة. وهناك أشكال علاجية تعبيرية معروفة مثل العلاج بالتمثيل (تمثيل الصدمات مثلاً) وطرق التعبير بالرسم والفن وفي كل ذلك تنفيس وتعبير عن المشاعر المتنوعة وفيها عقلنة وتفهم وسيطرة على هذه الانفعالات.
4- في حال الصدمة العاطفية يلجأ كثيرون إلى أساليب وممارسات روحية ودينية للتخفيف من وطأة الأزمة التي يعيشونها ، وهي تفيد في مثل هذه الحالات ، وبعضهم ينكب على أعماله أو هواياته ويشغل نفسه بشكل مبالغ فيه كتعويض عن الفقدان الذي تعرض له وكأنه يهرب من تجربة الفقدان ولا يعترف بها ، وبعضهم يحاول أن ينسى الحبيب من خلال الابتعاد المكاني كأن ينتقل من مكان إقامته أو عمله أو كليته كي لا يرى المحبوب أو يسمع عنه .. وهو يحاول مقاومة نفسه ومشاعر الضعف والألم والفقدان بالهروب منها .. وقد يفيد ذلك مؤقتاً ولكنه أسلوب طفولي أو غير ناضج للتعامل مع الصدمة مباشرة، كما أنه يمكن أن يترك آثاراً سلبية عديدة على المدى البعيد. وبعضهم يقفز إلى مغامرة عاطفية أخرى بشكل سريع وفقاً لمبدأ " داوها بالتي كانت الداء " ولا يفيد ذلك غالباً ولابد أن يشفى الشخص نسبياً من أزمته وصدمته قبل أن يقوم بعلاقة أخرى ناجحة.(3)
5- من النواحي النفسية يمكننا أن نقول أنه من المفيد التحدث عن الأزمة العاطفية والتعبير عن الألم والأسى والفقدان والإقرار بهذه العواطف والانفعالات والتجارب بهدف تجاوزها ، ومن المفيد أيضاً هضم التجربة من النواحي المنطقية العقلانية وإيجاد التفسيرات المناسبة والأسباب التي أدت إلى انتهاء العلاقة .. ويمكن أن يكون ذلك بشكل ذاتي يقوم به الشخص مع نفسه ، أو من خلال الحوار مع أصدقائه ومعارفه أو مع المعالج النفسي.
ويفيد الابتعاد المؤقت عن الحدث مثل إجازة قصيرة أو رحلة للابتعاد عن الجو المؤلم مما يعطي فرصة لتقويم الحالة برؤية مختلفة إيجابية بدلاً عن الانغماس في مشاعر الألم والإحباط والشوق.
6- الوصول إلى نسيان المحبوب وتجاوز الصدمة العاطفية ليس أمراُ سهلاً وله جوانب متنوعة .. والحديث عنه يتطلب خبرة ودراية وعلماً..ومن الناحية النفسية يتطلب النسيان بروز المشاعر السلبية تجاه موضوع الألم والصدمة ..وأهم هذه المشاعر الغضب.
وعندما يستطيع الشخص أن يعبر عن غضبه وأن يغضب على حبيبه الذي تركه أو خذله أو خانه فقد اقترب كثيراً من الشفاء ومن النسيان .. ويحتاج ذلك التعبير إلى تكراره بشكل أو بآخر مرات عديدة . وهنا تبدو هذه الوصفة مفيدة ويمكن للأهل والأصدقاء أن يمارسوها.
ويتضمن التعبير عن الغضب والانزعاج من المحبوب استعمال مختلف العبارات السلبية والأوصاف الساخرة والشتائم وغيرها ..وهناك تعبيرات أدبية لاذعة مثل "تباً لكَ أو لكِ " من الضروري تشجيعها في حوار الشخص الداخلي أو من خلال الجلسات العلاجية.
وفي الحالات العيادية نجد كثيرين لا يجرؤون على التلفظ بأي وصف سلبي للمحبوب مع أنه يستحق كل الغضب وكل الأوصاف السلبية ويرتبط ذلك بعملية عقلية تسمى تضخيم المحبوب والمبالغة في أوصافه الجيدة وتصغير نقائصه أو عدم رؤيتها ( الحب الأعمى). وتأتي عملية التعبير عن الغضب المرافقة لتعديل صورة المحبوب الخيالية مكملة للجهود المبذولة في تفهم الصدمة وتجاوزها، وهي تؤثر تأثيراً مباشراً على "شبكة الحب" التي لا تزال ممتدة وموظفة في المحبوب مما يساعد على سحبها منه وانسحابها إلى الشخص نفسه تدريجياً.
والقاعدة العامة أن بقاء "شبكة الحب" الشخصية مرتبطة بالمحبوب بعدة أشكال ظاهرية أو خفية فإن ذلك يطيل أمد المعاناة والصدمة ، وكلما ساعدنا الشخص المصدوم على قطع هذه الشبكة وسحبها كلما كان الشفاء أسرع.
وببساطة يمكن شرح ذلك للشخص وتشجيعه على مجموعة من السلوكيات التي تساعده على قطع ارتباط شبكته بالمحبوب .. ومنها تجاهل أخباره والابتعاد عن رؤيته والتخلص من الأشياء التي تذكره به. ويبدو أن الغضب عليه وتكرار وصفه بصفات سلبية عامل رئيسي يسرع في فطع "شبكة الحب" وانسحابها.
7- يمكننا القول أن التعبير عن الحزن بشكل متكرر ، والتعبير عن الغضب بشكل متكرر ، والاهتمام بالواقع العملي، واستعادة النشاطات، ومراجعة الذات وإعادة برمجتها، وتفسير الأحداث وعقلنتها، كل ذلك مبادئ أساسية وإيجابية في الحياة تؤكد على التجاوز وفتح صفحة جديدة مع الحياة ومع الجنس الآخر.
8- إذا تحدثنا عن العلاج النفسي الاختصاصي للصدمة العاطفية لابد من التأكيد في البداية على ضرورة التعرف على تفاصيل كل حالة واستخدام الأساليب المناسبة لها .. ويتم ذلك عادة من خلال جلسات علاجية نفسية ويمكن استخدام عدد من التقنيات والمبادئ ومنها .. العلاج النفسي الداعم الذي يقوم على تقديم العون والتشجيع للمريض والتركيز على نقاط قوته وسلوكه الإيجابي مع إتاحة الفرصة له للتعبير عن اتفعالاته المتنوعة كالحزن والألم والغضب وغيرها ضمن إطار من الخصوصية والتقبل والدعم.
وتفيد مبادئ الاستشارة النفسية العامة في ذلك أيضاً والتي تتضمن الأساليب السابقة إضافة إلى مناقشة أمور المريض اليومية وسلوكياته ومشكلاته مع توجيه النصح والإرشاد لاختيار أساليب عملية وفعالة في التعامل مع معاناته ومشكلاته اليومية.
ويفيد العلاج المعرفي السلوكي في تعديل أفكار المريض الخاطئة وفي تعديل نمط التفكير السلبي وغير الواقعي من خلال مناقشة وتسجيل الأفكار التلقائية السلبية والافتراضات العميقة الأساسية عن نفسه وعن الآخر، وأيضاً تعديل أنماط التفكير المتحيز مثل التضخيم والتعميم والاستنتاج الخاطئ وغيرها.. حيث يتصف المصدوم بلوم نفسه بشكل غير منطقي أو بشكل مبالغ فيه كما يتصف تفكيره بتضخيم المحبوب وإيجاد الأعذار له وغير ذلك. وتتداخل وتتشابك الأفكار التلقائية مع الافتراضات الأساسية والعمليات العقلية ويجري في الجلسات العلاجية تحديد هذه الأفكار وعزلها وتعديلها تدريجياً بمساعدة الشخص نفسه ، ويشبه ذلك إعادة تكوين الشبكة المعرفية الداخلية وإعادة برمجتها بشكل إيجابي ومفيد.
وفي بعض الحالات المناسبة من الممكن الاستفادة من نظريات التحليل النفسي العامة المتعلقة بالفقدان والحداد ونظريات التعلق بالموضوع ( الآخر) وغيرها من النظريات وفقاً لخبرة المعالج وتدريبه ،وذلك من خلال التبصر وتفهم أبعاد الصدمة العميقة والرمزية أو اللاشعورية ضمن جلسات تحليلية لفترة قصيرة الأمد(عدة أسابيع أو أكثر).
22/7/2013
وتجدر الإشارة إلى أن هدف العملية العلاجية يتمثل بمساعدة الشخص على تعامله مع الصدمة العاطفية بشكل مناسب وناجح وعلى تجاوزه لها وفقاً لقدراته وتركيبته الشخصية وظروفه.((5
وعموماً لا بد من التأكيد على أن بعض الحالات العيادية تحتاج للمزيد من العلاج الاختصاصي النفسي أو الدوائي إذا كانت أعراض الصدمة شديدة أو طالت مدتها وتعطيلها.
حول الوقاية:
لابد من القول أن الوضوح مطلوب دائماً في التعامل مع الذات ومع الآخر ، ولابد للإنسان أن يراجع نفسه وعلاقاته وسلوكه وأولوياته .. ويمكن الاستفادة من قصص الحياة ومن الأصدقاء والأهل ، ومن الثقافة والكتب ، ومن وسائل الإعلام المختلفة فيما يتعلق بالقضايا العاطفية ومشكلاتها.
ولابد من مواجهة المشكلات مع الطرف الآخر منذ بدايتها بدلاً عن تركها تستفحل وتكبر وتؤدي إلى الانفصال .. ولابد من وضع النقاط على الحروف في حال استحالة استمرار العلاقة والتفاهم والحوار العاقل على أسباب الفراق مما يؤدي إلى تعقيل الفراق وهضمه ويخفف من آثار الصدمة العاطفية.
ولابد من ثقافة الحب الواقعية التي تؤكد على تنمية المهارات الشخصية والتفاهم والحوار والامتداد للآخر والنضج والمسؤولية العاطفية والعملية. وكثير من المستهترين من الجنسين يشكلون مصدراً مولداً للأزمات العاطفية للآخرين.
كلمة أخيرة .. " الأزمة فرصة " وفقاً للمثل الصيني، ويمكن أن تتحول المحنة العاطفية إلى فرصة للنمو واختبار للذات والآخر والحياة، مهما كانت الآلام المرافقة لمعاناة الصدمة العاطفية، كما يمكنها أن تشكل دروساً نفسية مفيدة وأن تساهم في التعرف على "شبكة الحب " والعمل على نموها وتعديلها، وأن تجعل الإنسان أكثر صلابة وأكثر نضجاً من النواحي العاطفية والحياتية.
مراجع عامة:
1- http://en.wikipedia.org/wiki/Cathexis
2- http://www.tandfonline.com/d…/abs/10.1080/00224490209552145…
3- http://www.hayatnafs.com/abna…/emotionaltrauma&teenagers.htm
4-http://www.hayatnafs.com/moshkel…/forgetting-love-wounds.htm
5- Kernberg Otto,Object relation theory and clinical psychopathology.Jason Aronson Inc.New York 1984
6- Scott J,Williams JMG,Beck AT,Cognitive therapy in clinical practice.Routledge.1989
7-Talbott JA,Hales RE,Yudofsky SCA,Editors:Textbook of psychiatry.American psychiatric press Inc.1988
الدكتور حسان المالح استشاري الطب النفسي - أستاذ في الجامعة العربية الدولية - دمشق - 2322841
مقدمة:
تستعمل لغة المجاز في العلاج النفسي بأشكال متنوعة .. وذلك لما تحتويه من مدلولات لغوية ونظرية في تقريب المفاهيم المعقدة أو العميقة إضافة لفوائدها التطبيقية والعملية. ومن المصطلحات المعروفة "تركيز أو شحن الطاقة النفسية" Cathexis حيث اعتبر فرويد أن الطاقة الحيوية الجنسية Libido يتم توظيفها في موضوع معين كما في الأحلام حيث تكون أفكار الحلم مشحونة بكميات متنوعة من الانفعالات السلبية أو الإيجابية. وقد وصف فرويد الطاقة النفسية الجنسية بتعبيرات شبيهة بمصطلحات الفيزياء حيث اعتبر مثلاً أن إحباط الرغبات الجنسية أو منع الطاقات المشحونة يؤدي إلى تراكمها ومن ثم التعبير عنها بأشكال غير اعتيادية مثل النكوص والتثبت والاستمتاع بالإثارة الذاتية كبديل عن الآخر. كما استعمل فكرة الشحن المعاكس Anti cathexis ليوضح كيف يمكن للأنا أن تقاوم هذا النكوص مثل المحرك البخاري الذي تتحول فيه الطاقة من خلال وسائل الدفاع النفسية إلى التصعيد والتكوين المعاكس وغيره.
وبين فرويد أن انسحاب الشحن من الموضوع أو الآخر يترافق مع عملية الحداد والحزن والذي يعتبر أساس نظرية العلاقة مع الموضوع ( أو الآخر) Object relation theory التي طورتها ميلاني كلاين وآخرون.(1)
ومن المصطلحات الحديثة في علم النفس مصطلح Emotional investment والذي يعني تركيز الانفعالات على شخص معين وله تطبيقات وتفصيلات متنوعة وله تأثيره في العلاقة الجنسية والعلاقات الأبوية وغير ذلك .(2)
وفي العلاج المعرفي هناك افتراضات أساسية Basic assumptions وأفكار تلقائية Automatic thoughts وعمليات عقلية متحيزة مثل التضخيم والتعميم وغيرها.. وتتداخل وتتشابك الأفكار التلقائية مع الافتراضات الأساسية والعمليات العقلية ويجري في العلاج تحديد هذه الأفكار وعزلها وتعديلها تدريجياً بما يشبه إعادة تكوين الشبكة المعرفية الداخلية وإعادة برمجتها بشكل إيجابي ومفيد.((6
ومفهوم "شبكة الحب " وجدته سهلاً ومناسباً ومفيداً من خلال العمل النفسي العلاجي ..وهو تعبير مجازي يعني أنه في العلاقات العاطفية المتنوعة ينشأ تكوين نفسي خاص عند الشخص أساسه الحب والعطاء والتبادل والتوجه نحو الآخر والتعلق به والامتداد نحوه..وتتألف هذه الشبكة من خيوط وحبال متنوعة المقاسات والصفات ونسيجها مكون من الانفعالات والأفكار والتخيلات والأحلام التي يتم توظيفها من قبل الشخص نحو الآخر..وتزداد تفاصيل هذه الشبكة وقوتها وتعقيداتها من خلال الأحداث اليومية والذكريات المشتركة وهي تربطنا بالآخر وتربط الآخر بنا..
وفي حالات الفراق تعود هذه الشبكة إلى الداخل بعد أن كانت تستهدف الطرف الآخر.. حيث يصبح الشخص مشغولاً بذاته وخيالاته وآلامه. وبعد مدة تطول أو تقصر ووفقاً لتفاصيل كل قصة عاطفية تبدأ علاقة أخرى ويلقي الشخص شبكته على شخص آخر يوظف فيها ذاته وانفعالاته وأفكاره وأحلامه.
ولا بد من تعديلات إيجابية وعلاج وتجديد هذه الشبكة في تفاصيلها العاطفية والانفعالية والفكرية والسلوكية مما يؤدي إلى تجاوز الصدمة بشكل أفضل وإلى علاقة قادمة أكثر نجاحاً.
ويفيد فهم هذا التوصيف السابق وتطبيقه في تحليل وعلاج الصدمة العاطفية وفي المساعدة على تسريع عملية النسيان الإيجابية وعلى شفاء الجروح العاطفية المتنوعة.
ومن الناحية العملية عندما تنتهي العلاقة بسبب أحد الطرفين أو كليهما أو بسبب الظروف ، فإن هذه "الشبكة" تبقى تربطنا بالآخر وتشدنا إليه في معظم الحالات مما يجعل حياة الشخص معطلة ومشتتة كما أنها تساهم في أطالة فترة الشفاء من الإحباط العاطفي أو صدمة الفراق والفقدان وتزيد من مشكلات الجرح العاطفي بدلأ عن شفائها.. لذلك فإنه من المفيد سحب هذه "الشبكة" من الآخر وقطعها وتعديلها علاجياً.
الصدمات العاطفية:
من المعروف أن انتهاء العلاقة العاطفية والفراق يؤدي عموماً إلى صدمة نفسية تتمثل بثلاث مراحل متداخلة .. وهي مرحلة الإنكار وعدم التصديق ثم الحزن ثم التقبل والتكيف.(7)
وفي المرحلة الأولى نجد عدم تصديق الفراق وأفكاراً عن عودة الحبيب المفقود بأشكال متعددة وأن العلاقة لا تزال قائمة وأن ما حدث هو سوء تفاهم عابر وغير ذلك..وبعضهم يحاول الاتصال بالحبيب بعدة أشكال ولمرات عديدة بشكل مباشر أو من خلال الآخرين كي يتحدث معه ويحاوره ويقنعه بالبقاء.
ويلي ذلك مرحلة من الحزن والأسى والألم والشعور بالفقدان والتشاؤم واليأس مع أعراض القلق والتوتر والعصبية والعزلة ونقص التركيز والطاقة واضطراب النوم وأعراض نفسية جسمية متنوعة.. إضافة لتذكر المحبوب ومحاولة الاتصال به لسماع صوته فقط أو لرؤيته من بعيد.وأيضاً يحدث تذكر واستعادة للأحداث الأخيرة والأحداث الماضية ومختلف أنواع الذكريات المرتبطة بالحبيب المفقود، ويكثر الحوار الذاتي السلبي وتظهر أفكار تلقائية عن ضعف الذات ونقائصها وأخطائها،وأفكار سلبية متنوعة عن الذات والحاضر والمستقبل. ويكثر تصغير الذات ولومها وتضخيم الآخر وتبرئته.
وبعضهم يهمل نفسه ومظهره .. وبعضهم الآخر تتأثر دراسته أو عمله بشكل سلبي ويمكن له أن يتوقف عن دراسته أو أن يستقيل من عمله. وفي حالات أخرى مرضية يمكن أن يصاب الشخص بنوبة اكتئابية شديدة أو يحاول الانتحار وغير ذلك.
وفي المرحلة الأخيرة يحدث التقبل والتكيف وتصبح الرؤيا أكثر واقعية وتتعدل بعض الافتراضات والأفكار الخاطئة عن الذات وعن الآخر.. وربما يحدث تبني أفكار جديدة من خلال مراجعات أو نصائح أو معلومات حصل عليها الشخص عن الآخر تساعده على قبول فكرة الانفصال وأن الآخر لا يناسبه أو أنه لم يعد مناسباً له بعدما انكشف على حقيقته وأنه كان كاذباً أو محتالاً أو ممثلاً .. وتبدأ الصورة الخيالية الإيجابية عنه بالذبول والتحول إلى صورة أكثر واقعية.
وصدمة الفراق لا تعتبر مرضاً بل هي رد فعل نفسي اعتيادي مفهوم ومؤقت بسبب فقدان الحبيب ويمكن أن تستمر أسابيع أو شهوراً .. وكثير من الأشخاص يمرون بهذه الصدمات ويتجاوزونها بشكل مقبول ودون عون اختصاصي..وبعضهم يكتفي بنصائح الأهل والأصدقاء وبعضهم يستشير الكتب ومصادر المعلومات أو الخبراء. وفي الحالات المرضية يمكن أن تكون ردود الفعل شديدة ومعطلة ،أو أنها تستمر فترات طويلة.
ومن المعروف أن الجروح العاطفية هي من المشكلات الشائعة لدى الجنسين في مختلف المراحل العمرية وتتنوع أشكالها ..ومنها صدمة الخيانة العاطفية والزوجية وهروب الحبيب وابتعاده والهجر والطلاق والانفصال وغير ذلك.
وتختلف آثار الصدمة ونتائجها وفقاً لتفاصيل الصدمة وملامحها ووفقاً لشخصية الإنسان وظروفه وتكوينه النفسي والشخصي واستعداداته وقدراته ومهاراته وتجاربه السابقة وثقته بنفسه ..وكلما كان الشخص أكثر ثقة بنفسه كلما ازدادت قدرته على تجاوز الصعاب والصدمات . وترتبط ردود الفعل أيضاً بظروف العلاقة نفسها وطريقة انتهائها. والقاعدة العامة أن النهاية المفاجئة غير المتوقعة تحدث أثراً سلبياً أكبر وأقوى من النهاية المتوقعة أو المفهومة. ويحتاج الإنسان إلى تعقيل الصدمة وفهمها وشرح أسبابها وظروفها .. والغموض وعدم الوضوح في أسباب انتهاء العلاقة يخلق قلقاً شديداً غير مفهوم ولا يسهل تعقيله وهضمه وبالتالي لا يسهل التكيف معه وتجاوزه.
وعموماً يمكن للصدمات العاطفية أن تؤدي إلى الاكتئاب والحزن والألم النفسي الذي يستمر طويلاً ،كما تؤدي إلى مشكلات سلوكية وعقد نفسية مرتبطة بالجنس الآخر ،مثل رفض الجنس الآخر والابتعاد عنه وعدم الثقة به وأيضاً مواجهته وإيذائه والحقد عليه.
كما تؤدي إلى السلوك الإدماني والسلوك المضاد للمجتمع والسلوك الانتحاري ..وغير ذلك من الاضطرابات.(7)
ويتعرض جيل الشباب بشكل خاص إلى صدمات عاطفية متنوعة بعد فشل في العلاقة مع الجنس الآخر أو تعثر هذه العلاقة .. وبعضهم يعاني من آثارها فترة ثم يتجاوزها، وبعضهم تتطرف ردود فعله النفسية والسلوكية ويصاب باضطراب نفسي، وبعضهم الآخر يعتبر الصدمة تجربة مفيدة تعلمه دروس الحياة وتزيده خبرة ونضجاً وصلابة.
ويمكن اعتبار الصدمات العاطفية في هذه المرحلة أمراً شائعاً وربما تكون مرحلة ضرورية من النمو النفسي والعاطفي..لأن مرحلة الشباب نفسها تمتاز بحدة الانفعالات والاندفاعات العاطفية تجاه الجنس الآخر وهي تتميز أيضاً بتقلب العواطف وحب التجريب والاكتشاف،كما أن ضعف الخبرة في التعامل مع الجنس الآخر ومع الواقع العملي والظروف يجعل من الطبيعي حدوث علاقات عاطفية غير متناسبة مما ينتج عنها فراق وألم وصدمات.(3)
التعامل مع الصدمات العاطفية وعلاجها:
إن تجاوز الصدمات بشكل إيجابي مطلوب دائماً ..ويحتاج الإنسان إلى الدعم النفسي والمعنوي وإعادة ترتيب أفكاره وانفعالاته وعواطفه إضافة للتعبير عن آلامه وجروحه وغضبه وحزنه لمدة تطول أو تقصر إلى أن يتم تجاوز الصدمة بنسبة كافية تؤهله للاستمرار في حياته بشكل فعال وفتح صفحة جديدة مع نفسه والآخرين والحياة.
وهذه العملية ليست سهلة أو ميسرة وهي تستهلك كثيراً من طاقة الشخص النفسية والعقلية والبدنية وهي تحتاج إلى أسابيع عدة أو شهور وأحياناً إلى سنوات.
1- مما لاشك فيه أن الثقافة النفسية مفيدة في تفهم الإنسان لما يجري له من آلام ومعاناة ويساعده على احتواء ذلك والتخفيف منه والسيطرة عليه بشكل أو بآخر.. كما أن الثقافة العاطفية والاطلاع على مشكلات الحب وصدماته مفيد جداً في عملية تعديل التوازن النفسي والعقلي والفكري الذي يتعرض له المجروح والمصدوم.
وهناك كتابات وأقوال مفيدة ونصائح وأفكار واضاءات يمكن الاستفادة منها من الحكماء والأدباء والمثقفين والمربين وذوي الخبرات الشخصية من الأصدقاء والمعارف والأهل.
ومثلاً هناك فوائد متعددة في "كتاب نسيان دوت كوم" للأديبة أحلام مستغانمي حول نسيان الجروح العاطفية (وهو موجه للمرأة أساساً) ،ومنها النصائح التالية:
- يبقى أن العلاج المثالي لكل أوجاع القلب هو الضحك وعدم أخذ الذاكرة مأخذ الجد .
- لا تبكين على الطلل وعلى الحبيب إذا رحل
واقطع من الرحم الذي بك في المناسبة اتصل
سيان عندك فليكن من لم يصلك ومن وصل
من الوصايا المضادة لأبي نواس.
- السرير ليس مكاناً آمناً لإمرأة تنشد النسيان .. السرير كمين يقع فيه القلب النازف شوقاً المطعون عشقاً اعتقاداً منه أنه ملاذ آمن.. غادري سريرك حال استيقاظك بدل أن تجلسي إلى ذاكرتك في سرير .. لأنك هناك لا لتنسي من تحبين بل لتستعيديه لتنفردي به لتبكيه.
- من العدل ألا تبقي في قلبك أكثر من يوم من تركك باختياره، وألا تحزني عليه أكثر من بضعة أيام في أقصى الحالات .. كفى بربك حماقة.
- ليس ثمة نسيان جميل أو سريع ، لا أحد بإمكانه أن يهديك النسيان قبل وقته ، أو يبيعك إياه قبل أن يتفتح على أغصانه ..عليك أن تقتنيه بألمك وأرقك ودموعك..هذه هي العملة الوحيدة التي تتعامل بها الأحاسيس في مواجهة الفقدان الكبير.
- تذكري نحن لا ننسى إلا حين نريد ذلك حقاً .. كوني صادقة في إصرارك على النسيان.
(أنظر مقالة نقدية تفصيلية لي بعنوان نسيان الجروح العاطفية إضاءات وتحليلات لكتاب نسيان كوم للأديبة أحلام مستغانمي).(4
2- لا بد من التأكيد على أن الإرادة والتصميم والإصرار عامل أساسي في النسيان .. ويختلف الرجل والمرأة في قدراتهم على تحديد الأهداف وإصابتها وفي إصرارهم على الوصول إليها ..وربما كان الرجل أكثر إصراراً ويصيب الهدف بشكل أفضل .. وفي بعض الدراسات أنه ربما كان الرجل أقدر على النسيان وأن ذلك له علاقة بهرمون التستستيرون الذكري وتأثيراته في كف وتثبيط مناطق الدماغ المرتبطة بالذاكرة.
3- تتضمن عملية إعادة التوازن وتجاوز الصدمة قدرة الشخص على النسيان ..وقدرته على إعادة ترتيب عالمه الداخلي وشبكة حبه بما فيه تعديل الذكريات الأليمة المرتبطة بانفعالات شديدة سلبية مثل الغضب والحزن والأسى، وتعديل أفكار المرء عن نفسه وقيمتها وعن الفقدان والخسائر التي تعرض لها ..وعن الواقع المحيط به والمستقبل الذي يقترب منه.
ويفيد التعبير عن الانفعالات وتجارب الحياة بأشكال أدبية متنوعة مثل الخاطرة والقصة والرواية والشعر وغيرها .. ويعتبر ذلك أسلوباً علاجياً ناجحاً يعالج فيه المجروح جراحاته وقلقه بشكل يجعله أكثر توازناً وأكثر ثقة بنفسه. ونجد ذلك عند عموم الناس وهم يكتبون وينتجون كتابات متفاوتة في عمقها وقيمتها الفكرية والأدبية كما نجد ذلك عند الأدباء المحترفين.
ومن الناحية النفسية من المفيد تشجيع طرق التعبير الكتابية والأدبية لأنها تساهم في إعادة التوازن للذات المجروحة. وهناك أشكال علاجية تعبيرية معروفة مثل العلاج بالتمثيل (تمثيل الصدمات مثلاً) وطرق التعبير بالرسم والفن وفي كل ذلك تنفيس وتعبير عن المشاعر المتنوعة وفيها عقلنة وتفهم وسيطرة على هذه الانفعالات.
4- في حال الصدمة العاطفية يلجأ كثيرون إلى أساليب وممارسات روحية ودينية للتخفيف من وطأة الأزمة التي يعيشونها ، وهي تفيد في مثل هذه الحالات ، وبعضهم ينكب على أعماله أو هواياته ويشغل نفسه بشكل مبالغ فيه كتعويض عن الفقدان الذي تعرض له وكأنه يهرب من تجربة الفقدان ولا يعترف بها ، وبعضهم يحاول أن ينسى الحبيب من خلال الابتعاد المكاني كأن ينتقل من مكان إقامته أو عمله أو كليته كي لا يرى المحبوب أو يسمع عنه .. وهو يحاول مقاومة نفسه ومشاعر الضعف والألم والفقدان بالهروب منها .. وقد يفيد ذلك مؤقتاً ولكنه أسلوب طفولي أو غير ناضج للتعامل مع الصدمة مباشرة، كما أنه يمكن أن يترك آثاراً سلبية عديدة على المدى البعيد. وبعضهم يقفز إلى مغامرة عاطفية أخرى بشكل سريع وفقاً لمبدأ " داوها بالتي كانت الداء " ولا يفيد ذلك غالباً ولابد أن يشفى الشخص نسبياً من أزمته وصدمته قبل أن يقوم بعلاقة أخرى ناجحة.(3)
5- من النواحي النفسية يمكننا أن نقول أنه من المفيد التحدث عن الأزمة العاطفية والتعبير عن الألم والأسى والفقدان والإقرار بهذه العواطف والانفعالات والتجارب بهدف تجاوزها ، ومن المفيد أيضاً هضم التجربة من النواحي المنطقية العقلانية وإيجاد التفسيرات المناسبة والأسباب التي أدت إلى انتهاء العلاقة .. ويمكن أن يكون ذلك بشكل ذاتي يقوم به الشخص مع نفسه ، أو من خلال الحوار مع أصدقائه ومعارفه أو مع المعالج النفسي.
ويفيد الابتعاد المؤقت عن الحدث مثل إجازة قصيرة أو رحلة للابتعاد عن الجو المؤلم مما يعطي فرصة لتقويم الحالة برؤية مختلفة إيجابية بدلاً عن الانغماس في مشاعر الألم والإحباط والشوق.
6- الوصول إلى نسيان المحبوب وتجاوز الصدمة العاطفية ليس أمراُ سهلاً وله جوانب متنوعة .. والحديث عنه يتطلب خبرة ودراية وعلماً..ومن الناحية النفسية يتطلب النسيان بروز المشاعر السلبية تجاه موضوع الألم والصدمة ..وأهم هذه المشاعر الغضب.
وعندما يستطيع الشخص أن يعبر عن غضبه وأن يغضب على حبيبه الذي تركه أو خذله أو خانه فقد اقترب كثيراً من الشفاء ومن النسيان .. ويحتاج ذلك التعبير إلى تكراره بشكل أو بآخر مرات عديدة . وهنا تبدو هذه الوصفة مفيدة ويمكن للأهل والأصدقاء أن يمارسوها.
ويتضمن التعبير عن الغضب والانزعاج من المحبوب استعمال مختلف العبارات السلبية والأوصاف الساخرة والشتائم وغيرها ..وهناك تعبيرات أدبية لاذعة مثل "تباً لكَ أو لكِ " من الضروري تشجيعها في حوار الشخص الداخلي أو من خلال الجلسات العلاجية.
وفي الحالات العيادية نجد كثيرين لا يجرؤون على التلفظ بأي وصف سلبي للمحبوب مع أنه يستحق كل الغضب وكل الأوصاف السلبية ويرتبط ذلك بعملية عقلية تسمى تضخيم المحبوب والمبالغة في أوصافه الجيدة وتصغير نقائصه أو عدم رؤيتها ( الحب الأعمى). وتأتي عملية التعبير عن الغضب المرافقة لتعديل صورة المحبوب الخيالية مكملة للجهود المبذولة في تفهم الصدمة وتجاوزها، وهي تؤثر تأثيراً مباشراً على "شبكة الحب" التي لا تزال ممتدة وموظفة في المحبوب مما يساعد على سحبها منه وانسحابها إلى الشخص نفسه تدريجياً.
والقاعدة العامة أن بقاء "شبكة الحب" الشخصية مرتبطة بالمحبوب بعدة أشكال ظاهرية أو خفية فإن ذلك يطيل أمد المعاناة والصدمة ، وكلما ساعدنا الشخص المصدوم على قطع هذه الشبكة وسحبها كلما كان الشفاء أسرع.
وببساطة يمكن شرح ذلك للشخص وتشجيعه على مجموعة من السلوكيات التي تساعده على قطع ارتباط شبكته بالمحبوب .. ومنها تجاهل أخباره والابتعاد عن رؤيته والتخلص من الأشياء التي تذكره به. ويبدو أن الغضب عليه وتكرار وصفه بصفات سلبية عامل رئيسي يسرع في فطع "شبكة الحب" وانسحابها.
7- يمكننا القول أن التعبير عن الحزن بشكل متكرر ، والتعبير عن الغضب بشكل متكرر ، والاهتمام بالواقع العملي، واستعادة النشاطات، ومراجعة الذات وإعادة برمجتها، وتفسير الأحداث وعقلنتها، كل ذلك مبادئ أساسية وإيجابية في الحياة تؤكد على التجاوز وفتح صفحة جديدة مع الحياة ومع الجنس الآخر.
8- إذا تحدثنا عن العلاج النفسي الاختصاصي للصدمة العاطفية لابد من التأكيد في البداية على ضرورة التعرف على تفاصيل كل حالة واستخدام الأساليب المناسبة لها .. ويتم ذلك عادة من خلال جلسات علاجية نفسية ويمكن استخدام عدد من التقنيات والمبادئ ومنها .. العلاج النفسي الداعم الذي يقوم على تقديم العون والتشجيع للمريض والتركيز على نقاط قوته وسلوكه الإيجابي مع إتاحة الفرصة له للتعبير عن اتفعالاته المتنوعة كالحزن والألم والغضب وغيرها ضمن إطار من الخصوصية والتقبل والدعم.
وتفيد مبادئ الاستشارة النفسية العامة في ذلك أيضاً والتي تتضمن الأساليب السابقة إضافة إلى مناقشة أمور المريض اليومية وسلوكياته ومشكلاته مع توجيه النصح والإرشاد لاختيار أساليب عملية وفعالة في التعامل مع معاناته ومشكلاته اليومية.
ويفيد العلاج المعرفي السلوكي في تعديل أفكار المريض الخاطئة وفي تعديل نمط التفكير السلبي وغير الواقعي من خلال مناقشة وتسجيل الأفكار التلقائية السلبية والافتراضات العميقة الأساسية عن نفسه وعن الآخر، وأيضاً تعديل أنماط التفكير المتحيز مثل التضخيم والتعميم والاستنتاج الخاطئ وغيرها.. حيث يتصف المصدوم بلوم نفسه بشكل غير منطقي أو بشكل مبالغ فيه كما يتصف تفكيره بتضخيم المحبوب وإيجاد الأعذار له وغير ذلك. وتتداخل وتتشابك الأفكار التلقائية مع الافتراضات الأساسية والعمليات العقلية ويجري في الجلسات العلاجية تحديد هذه الأفكار وعزلها وتعديلها تدريجياً بمساعدة الشخص نفسه ، ويشبه ذلك إعادة تكوين الشبكة المعرفية الداخلية وإعادة برمجتها بشكل إيجابي ومفيد.
وفي بعض الحالات المناسبة من الممكن الاستفادة من نظريات التحليل النفسي العامة المتعلقة بالفقدان والحداد ونظريات التعلق بالموضوع ( الآخر) وغيرها من النظريات وفقاً لخبرة المعالج وتدريبه ،وذلك من خلال التبصر وتفهم أبعاد الصدمة العميقة والرمزية أو اللاشعورية ضمن جلسات تحليلية لفترة قصيرة الأمد(عدة أسابيع أو أكثر).
22/7/2013
وتجدر الإشارة إلى أن هدف العملية العلاجية يتمثل بمساعدة الشخص على تعامله مع الصدمة العاطفية بشكل مناسب وناجح وعلى تجاوزه لها وفقاً لقدراته وتركيبته الشخصية وظروفه.((5
وعموماً لا بد من التأكيد على أن بعض الحالات العيادية تحتاج للمزيد من العلاج الاختصاصي النفسي أو الدوائي إذا كانت أعراض الصدمة شديدة أو طالت مدتها وتعطيلها.
حول الوقاية:
لابد من القول أن الوضوح مطلوب دائماً في التعامل مع الذات ومع الآخر ، ولابد للإنسان أن يراجع نفسه وعلاقاته وسلوكه وأولوياته .. ويمكن الاستفادة من قصص الحياة ومن الأصدقاء والأهل ، ومن الثقافة والكتب ، ومن وسائل الإعلام المختلفة فيما يتعلق بالقضايا العاطفية ومشكلاتها.
ولابد من مواجهة المشكلات مع الطرف الآخر منذ بدايتها بدلاً عن تركها تستفحل وتكبر وتؤدي إلى الانفصال .. ولابد من وضع النقاط على الحروف في حال استحالة استمرار العلاقة والتفاهم والحوار العاقل على أسباب الفراق مما يؤدي إلى تعقيل الفراق وهضمه ويخفف من آثار الصدمة العاطفية.
ولابد من ثقافة الحب الواقعية التي تؤكد على تنمية المهارات الشخصية والتفاهم والحوار والامتداد للآخر والنضج والمسؤولية العاطفية والعملية. وكثير من المستهترين من الجنسين يشكلون مصدراً مولداً للأزمات العاطفية للآخرين.
كلمة أخيرة .. " الأزمة فرصة " وفقاً للمثل الصيني، ويمكن أن تتحول المحنة العاطفية إلى فرصة للنمو واختبار للذات والآخر والحياة، مهما كانت الآلام المرافقة لمعاناة الصدمة العاطفية، كما يمكنها أن تشكل دروساً نفسية مفيدة وأن تساهم في التعرف على "شبكة الحب " والعمل على نموها وتعديلها، وأن تجعل الإنسان أكثر صلابة وأكثر نضجاً من النواحي العاطفية والحياتية.
مراجع عامة:
1- http://en.wikipedia.org/wiki/Cathexis
2- http://www.tandfonline.com/d…/abs/10.1080/00224490209552145…
3- http://www.hayatnafs.com/abna…/emotionaltrauma&teenagers.htm
4-http://www.hayatnafs.com/moshkel…/forgetting-love-wounds.htm
5- Kernberg Otto,Object relation theory and clinical psychopathology.Jason Aronson Inc.New York 1984
6- Scott J,Williams JMG,Beck AT,Cognitive therapy in clinical practice.Routledge.1989
7-Talbott JA,Hales RE,Yudofsky SCA,Editors:Textbook of psychiatry.American psychiatric press Inc.1988
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق