بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 30 سبتمبر 2016

الشعر والانتحار - عرض نقدي لفيلم "شعر" Poetry:

الشعر والانتحار - عرض نقدي لفيلم "شعر" Poetry:

الدكتور حسان المالح- استشاري الطب النفسي - دمشق - العيادة النفسية الاستشارية - أستاذ في الجامعة العربية الدولية
مقدمة:
يصنف فيلم شعر كفيلم درامي ومدته 139 دقيقة إنتاج 2009 كوريا الجنوبية ، وقد حاز على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان 2010.
يقول لي تشانغ دونغ Lee Chang-Dong كاتب ومخرج الفيلم في مؤتمر صحفي له بعد عرض الفيلم في مهرجان كان : إن معنى عنوان فيلمه “شعر” لا يعني باقة أزهار جميلة بذاتها .. بل يعني الحياة نفسها .. ومهما كانت الحياة بشعة فإن هناك أشياء جميلة في داخلها .. وهذا ما حاولت أن أعرضه في الفيلم .
وبعد متابعة ما حدث للمرأة العجوز وسعيها لاستعادة جمال الحياة من خلال الشعر يتمنى المخرج أن يخرج المتفرجون من الفيلم بتساؤلات مفيدة عن حياتهم .
إن موضوع فيلم شعر واسع جداً ويمكن تفسيره بأشكال متعددة لا تنتهي .. ويمكن للمتفرج أن يفسره بطريقة تناسبه وتناسب حياته .. وهكذا الشعر.
يتضمن الفيلم حادثتا انتحار وهو قصة حزينة حول إمرأة تبحث في نهاية عمرها عن معان جديدة .. وقد وجدت بعد حضوري للفيلم في مهرجان دمشق السينمائي أن أقوم بعرض نقدي للفيلم كمتفرج وكطبيب نفسي .
حول أحداث الفيلم:
تدور أحداث الفيلم في مدينة ريفية صغيرة في كوريا الجنوبية ، وبطلة الفيلم إمرأة جميلة في ستينيات عمرها تعيش مع حفيدها المراهق ، بعد طلاق ابنتها وذهابها للعمل في العاصمة تاركة ابنها في رعاية جدته التي تعمل كخادمة منزلية بدوام جزئي لدى رجل أعمال مسن لديه شلل في أطرافه العلوية والسفلية وصعوبة في النطق .
تبدأ الأحداث بزيارة البطلة للطبيب وهي تشكو من صعوبة في تذكر أسماء بعض الأشياء وطلب منها تحاليل إضافية وفحوصات وكانت النتيجة أنها تعاني من حالة خرف شيخي " ألزهايمر" في مراحله الأولى . وقد أخفت ذلك عن ابنتها خلال محادثاتهما التلفونية وأخبرتها أنها بصحة جيدة وهي ليست كذلك .
والحدث التالي كان في التحاقها بدورة لتعلم الشعر وحضورها دروساً أسبوعية في المركز الثقافي للمدينة وكانت تسأل الأستاذ عن صعوبة كتابة الشعر وأنها تريد أن تتعلم وأنها تسعى لكتابة قصيدة واحدة فقط .
والحدث الآخر كان انتحار مراهقة برمي نفسها من الجسر الرئيسي المطل على النهر وكانت في نفس صف حفيدها وعندما سألته عنها وعن أسباب انتحارها كذب عليها وقال لها أنه لا يعرفها .. وقد حضرت حفل تأبين تلك الفتاة في الكنيسة وتأثرت بموتها وتفجع أمها على فقدانها ، واستمعت للتراتيل الدينية حول نجاة روحها وصعودها للسماء. وهناك عدد من المشاهد التي تصور حفيدها في المنزل بشكل غير مبال وهو يأكل الطعام الذي تعده الجدة ولا يتحدث معها إلا بجفاء وعصبية وهي تحتويه وتطالبه بالمزيد من الترتيب والسلوك الحسن .
وفي حدث هام يحدث في المنزل الذي تعمل فيه ، كانت تغسل العجوز المشلول في الحمام وتفرك جسده بالصابون ، فطلب منها أن تمارس الجنس معه لقاء زيادة الأجرة وانزعجت ورفضت ولم تعد للعمل عنده .
وتتطور الأحداث بزيارة والد أحد التلاميذ في مدرسة حفيدها لها ،وهو يخبرها أن الفتاة المنتحرة قد تم اغتصابها من قبل شابين في المدرسة ومن ثم صار ستة تلاميذ يمارسون معها الجنس خلال عدة أشهر وأنها في النهاية قد انتحرت . وأن أم الصبية المنتحرة قد علمت بالقصة ولا يزال ذلك خافياً على أجهزة الشرطة وأن آباء التلاميذ الستة يحاولون التفاهم مع والدة الصبية المنتحرة وإعطائها مبلغاً كبيراً من المال كي لا يتم اعتقال الصبية واتهامهم باغتصاب الفتاة وسجنهم ،وأن عليها أن تؤمن مبلغاً من المال لأن حفيدها هو التلميذ السادس .
وهناك تفاصيل بطيئة ومشاهد متنوعة..ثم تتطور الأحداث وتقوم البطلة بزيارة لوالدة المراهقة المنتحرة وتتحدث معها بأمور عامة أثناء عملها في الحقل وتتأثر بكلماتها وفقدانها ، ثم تزور جسر المدينة وتتأمل كيف حدث انتحار الصبية وهي ترتدي قبعة بيضاء طارت من رأسها وهوت إلى النهر .. وبعد ذلك تعود إلى العجوز المشلول بشكل مفاجئ وتغسله وتمارس معه الجنس مرة واحدة ، وكان قد أوضح لها أنه يتمنى قبل موته أن يفعل ذلك .
وبعد ذلك تأتي بصورة للصبية المنتحرة وتضعها على طاولة حفيدها .. وقد تجاهل حفيدها الصورة وتابع طعامه دون اكتراث .. وفي حوار لاحق معه يبدو واضحاً أن الشاب المراهق يتصرف بشكل غير مسؤول ولايكترث لآلام الآخرين وأحاسيسهم ولا يبادل جدته أي مشاعر أو حسن سلوك .
فيما بعد طلبت من العجوز المريض مبلغ المال الذي عليها أن تدفعه للتفاهم مع والدة الصبية المنتحرة وأعطاها إياه وسلمته لوالد أحد التلاميذ كي يقدموا المبلغ لأم الصبية المنتحرة .
تتسارع الأحداث مع اقتراب نهاية الفيلم حيث نجد أن الشرطة قد قبضت على حفيدها حيث انكشف موضوع الاغتصاب تدريجياً ، وبسرعة نصل إلى قصيدة كتبتها البطلة وصار يقرؤها أستاذ الشعر للطلبة ورافق ذلك موسيقى تصويرية هادئة وجميلة .. وفي القصيدة أن روحها ستحلق نحو الأعلى وأنها سعيدة في الوصول إلى الراحة والطمأنينة في السماء وأن حياتها وكفاحها قد سارا في الاتجاه الطبيعي مثلما ينتهي النهر في البحر الكبير ويمتد إليه .. وينتهي الفيلم بلقطة جميلة قريبة من مستوى تدفق النهر وجريانه الدائم.
تعليقات:
1- الانطباع الأولي حول الفيلم أنه حزين وكئيب نسبياً .. وبعض مشاهده وحواراته كانت طويلة ومتشعبة دون داع.. مما جعل إيقاعه العام بطيئاً نسبياً وقد غادر القاعة عدد من المشاهدين .
2- يتضمن الفيلم حادثتي انتحار في بدايته ونهايته .. وأجد أن هناك علاقة تشابه بين هذين الانتحارين .. على الرغم من اختلافهما الظاهري .. والصبية المراهقة انتحرت بعد ممارستها الجنس مع عدد من التلاميذ في قاعة المختبر في المدرسة دون أن يلاحظ أحد ذلك .. وفي سلوكها خروج عن التقاليد وتمرد .. وكانت البداية أنها قامت بذلك دون إرادتها أي كان ذلك اغتصاباً ثم تحولت ممارساتها إلى موافقة ورغبة وسلوكاً طائشاً.. ويبدو أن صراعاتها النفسية الداخلية المرتبطة بالجنس والقيم الاجتماعية والدينية في بيئتها الخاصة قد ساهم في اختيارها للانتحار وإنهاء حياتها بدلاً عن الاستمرار فيها . ويبقى انتحارها مأساة مؤلمة ولكنه يعبر عن اضطراب في نضجها العقلي والانفعالي وعن تناقضات في سلوكها ورغباتها الطائشة ، في مرحلة عمرية حرجة وفي مجتمع معين اضطربت فيه القيم وتصارعت فيه قيم الأبناء مع قيم الآباء ولكنه لا يزال مجتمعاً شرقياً في قيمه وتقاليده الاجتماعية والدينية (مجتمع المدينة الريفية الصغيرة المتطورة رأسمالياً وتقنياً في كوريا الجنوبي).
3- "الانتحار الجميل" أو الموت الرحيم ربما يشبه موت البطلة وانتحارها في نهاية الفيلم أو هكذا أراد لها المخرج .. ويبقى هذا الاختيار فردياً وشخصياً جداً ولا يمكن أن يوافق عليه كثيرون..ويتبين من سيرة شخصيتها أنها تحب الاعتماد على نفسها وأنها تحاول أن تربي حفيدها على ذلك .. ومرض الخرف يتميز بأنه تدهور تدريجي في الذاكرة يتطور خلال سنوات إلى حالة اعتمادية كاملة على الأهل والمحيط .. وهي ترفض حالة الاعتمادية هذه بعمق ويبدو أن هذا الرفض قد ساهم باتخاذها لقرار الانتحار والخلاص . ومن ناحية أخرى نجد أنها قد فقدت الأمل في حفيدها أو ربما في الجيل الجديد غير المبالي وغير المقبول بسلوكه العام وسلوكه مع جدته ..وهذا أضاف لإحباطها وغضبها مما ساهم أيضاً في قرار انتحارها. وقد أوضح المخرج لنا عن شخصيتها مدى حساسيتها وتعاطفها مع آلام الآخرين في عدة مشاهد ، كما أنها مارست الجنس مع العجوز المريض كعمل خيري ومعاونة له على تحقيق أمله .. أو هكذا بدا الأمر للمشاهد . ولكن لا يمنع أن هناك شعوراً بالذنب قد رافق ذلك من الناحية النفسية العميقة وساهم في غضبها على نفسها وفي قرار انتحارها. وعادة تظهر مشاعر النقمة العامة والنقمة على الذات من خلال عوامل تربوية وقيم داخلية ودينية أو عوامل محيطية خارجية ومنها سلوكها غير المقبول اجتماعياً بممارسة الجنس مع العجوز المريض ، يضاف لذلك إحباطها وضياع الفرص أمامها في حياتها الجنسية بسبب التقدم في العمر .. كل ذلك الغضب والنقمة والإحباط تفاقم تدريجياً وظهر في قصيدة الانتحار وقراره .
ويبقى أنها استطاعت أن تعبر وبشكل أدبي فيه كلمات وتعابير دينية تشبه التطهر من الإثم في أن روحها ستسبح إلى أعلى حيث السكون والراحة الأبدية .. وقد حققت بذلك أمنيتها في أن تكتب قصيدة شعرية واحدة كانت بمثابة ملاحظات وكلمات انتحارية تعود المنتحرون على كتابة مثل ذلك قبل أن يتخذوا قرارهم النهائي في الانتحار .
4- وتبقى أسئلة عديدة يمكن للفيلم أن يطرحها ..
- هل انتحار بطلة الفيلم مبرر بشكل أو بآخر .. وهل يمكننا تبرير الانتحار أصلاً أم ربما يمكننا محاولة تفسيره ؟
هل تغير القدرات العقلية وتدهورها يفسر الانتحار ؟ وتدل الدراسات أن خطر الانتحار يزداد مع وجود الأمراض العضوية المزمنة أو النفسية .
- هل هناك ضياع في أبناء هذا العصر وجيله الجديد من حيث القيم والسلوك والاختيارات .. وهل يفسر ذلك للأهل انتحارهم من خلال شعورهم بالفشل واليأس والفقدان والإحباط الشديد بأن جهودهم التربوية من أجل أبنائهم أصبحت هباءً وأن أبناءهم لا ينتمون إليهم ولا يمكنهم أن يقدموا لهم بالمقابل شيئاً.
- هل يبرر الشعر الانتحار أو يدعو إليه ؟ وتدل الدراسات على أن الأدباء والشعراء أكثر تعرضاً لاضطرابات المزاج ونوبات الاكتئاب من عموم الناس ، وأن بعضهم ينهي حياته منتحراً كصرخة أخيرة على الظلم والبؤس وضياع الأحلام وغير ذلك من المعاني النبيلة .
وأخيراً .. يبقى أن الشعر هو رؤية ذاتية للحياة تصوغها اللغة والكلمات والانفعالات وهو يسعى نحو إثارة الجمال ويبعث على الراحة والمتعة ويساعد على حل الصراعات الذاتية والعامة ، وهو يتعامل مع حالات الإنسان المختلفة ومع المعاناة والألم النفسي ومع الواقع الفردي والاجتماعي والحياة ..
ومن الشعر ما يقدس الحياة ويداوي جراحاتها ويزرع الأمل ويقاوم الملل ويوسع الرؤية بعد ضيقها .. ومنه ما يغرق في الألم واليأس والموت ويجعل لذلك طعماً عذباً يتجرعه ويسعى إليه .
ويبقى للمشاهد والقارئ رأيه وأسئلته وهكذا الفن والأدب والشعر .
المراجع:
- موقع حياتنا النفسية www.hayatnafs.com
- http://www.fest21.com/…/lee_chang_dong_reveals_the_meaning_…
- http://www.imdb.com/title/tt1287878
تم النشر في 14/11/2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق